في شهر مارس من سنة 1962، وطأت أقدام مانديلا المغرب لأول مرة، وكانت المملكة آنذاك تشكل قبلة لحركات المقاومة ورموز التحرر في إفريقيا، وكان الملك محمد الخامس وأسماء مثل علال الفاسي والمهدي بن بركة وعبد الخالق الطريس معروفة وسط حركات التحرر العالمية.
ووجد مانديلا في استقباله الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي كان يشغل منصب وزير دولة مكلف بالشؤون الإفريقية، وطلب المناضل الجنوب إفريقي المغرب بدعمه ماليا وتدريب مقاتلي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وهو ما استجابت له المملكة.
كان زعيم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي يخطط للتقارب مع أطر وقيادات جبهة التحرير الوطني الجزائري التي كانت تقود ثورة ضد المستعمر الفرنسي، ولعب الدكتور الخطيب دورا بارزا في لقاء مانديلا بقادة الثورة الجزائرية في مدينة وجدة، ومنهم الهواري بومدين وأحمد بن بلة ومحمد بوضياف...
وبقي مانديلا لأشهر بعد ذلك في الجزائر قبل أن يعود إلى بلاده، وفي 5 غشت 1962، تم اعتقاله بمدينة دوربان، ليصبح بعد ذلك أيقونة نضال السود في جنوب افريقيا ضد نظام الفصل العنصري.
ووجهت له تهم التحريض على الإضرابات العمالية ومغادرة البلاد بدون إذن، وأدين بالسجن لخمس سنوات، وفي السنة الموالية وجد مانديلا نفسه أمام تهم جديدة هي التخريب والتآمر للإطاحة بالحكومة باستعمال العنف، وفي 12 يونيو 1964، أدين بالسجن مدى الحياة.
وفي يوم 11 فبراير 1990 غادر مانديلا السجن، بعد أن قضى 28 سنة من حياته داخل الزنزانة، وفي سنة 1993 توصل مانديلا والرئيس فريدريك دوكليرك إلى اتفاق يطوي نهائيا صفحة الميز العنصري في البلاد.
الاعتراف بالدعم المغربي
عاد مانديلا بعد خروجه من السجن لرئاسة حزب المؤتمر الوطني الافريقي، وأطلق حملته الانتخابية، وبدأها بجولة في العديد من الدول لشكرها على مساندتها لحزبه في كفاحه ضد نظام الفصل العنصري، وزار العاصمة الرباط، وحظي باستقبال كبير من قبل الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان قد أحدث تحولا كبيرا في السياسة الخارجية المغربية، إذ صار يدور في فلك السياسة الأمريكية التي كانت تعادي أغلب حركات التحرر في العالم، بعدما كان والده محمد الخامس من أشد المنادين بتمكين الشعوب الإفريقية من حق امتلاك قرارها الوطني.
ويوم 27 أبريل 1994، أصبح مانديلا رئيساً لجنوب افريقيا. وفي 27 أبريل 1995 وأثناء إلقائه خطابا للاحتفال بحركة المقاومة المسلحة وكفاح المؤتمر الوطني الافريقي من أجل تحرير جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصري، نوه مانديلا بالدكتور الخطيب ودوره في دعم بلاده.
وقال "هناك رجل قام برحلة طويلة ليلتحق بنا في هذه الاحتفالية، إنه أحد المناضلين الكبار وكان وزيرا في حكومة بلاده مكلفا بالشؤون الافريقية، وقد قمت بزيارة لبلده في سنة 1962 وقلت له آنذاك: "أريد أن اقابل جلالة الملك"، وسألني: لماذا؟ وقلت: إننا أنشأنا جيشا، ونريد ان ندرب جنودنا ونريد اسلحة وأموالا". وتابع مانديلا:
"وقال لي إنه يتفهم جيدا مغزى ومضمون مهمتي، لأنه بكل بساطة عاش هو كذلك نفس الأوضاع مثلنا، وقال لي اذهب رفقة رجالك إلى العاصمة دار السلام، وسأرسل طائرة لنقلهم إلى بلادي، وساعمل على تدريبهم".
وواصل مانديلا حديثه "لقد سألني عن نوع الاسلحة التي نريدها، وأين تريدون تسلمها؟، واطلعته على بعض التفاصيل وقلت له أن يرسلها إلى دار السلام. وقال لي أي مبلغ تريدون؟ وقلت له: أريد 5000 ليرة بريطانية، وكانت 1000 ليرة حينها تعادل ما يقرب المليون يومنا هذا". واستطرد مانديلا:
"قال لي: إرجع غدا، عند حدود التاسعة، ورجعت على الساعة الثامنة صباحا، وقال لي: هذا مبلغ 5000 ليرة الذي طلبته، ولست في حاجة إلى وصل يؤكد تسلمها، أريدك أن تذهب وتضعها في حسابك البنكي بلندن. وبعد ذلك سألني سؤالا آخر: ألاتزال تريد رؤية جلالة الملك؟ وقلت له: لا".
إثر ذلك خاطب مانديلا الحضور قائلا "أقدم إليكم الدكتور الخطيب من المملكة المغربية...أريدكم ان تحيوه بحرارة مرة أخرى".
مانديلا والبوليساريو
واستمر حكم مانديلا لجنوب إفريقيا من سنة 1994 إلى سنة 1999، وقاوم خلال حكمه للبلاد ضغوط أغلب أعضاء حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذين كانوا شديدي القرب من صناع القرار في الجزائر، ولم يعترف بـ"الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" التي أعلنتها جبهة البوليساريو في في 27 فبراير 1976.
في يونيو من سنة 1999 أصبح تابو مبيكي رئيسا للبلاد خلفا لمنديلا، وفي 15 شتنبر من سنة 2004 أعلنت جنوب إفريقيا اعترافها بـ"جمهورية" البوليساريو، وهو ما جعل المغرب يرد باستدعاء سفيره وقطع العلاقات الدبلوماسية معها.
في الخامس من شهر دجنبر من سنة 2013 توفي نيلسون مانديلا، وفي برقية تعزية وجهها الملك محمد السادس للرئيس الجنوب إفريقي جاكوب زوما قال "الفقيد ربط علاقة خاصة جدا مع بلدي الذي سانده منذ بداية كفاحه ضد نظام الابرتايد وأقام الراحل بالتالي فترات طويلة مطلع الستينات، حيث حظي خلالها بدعم سياسي ومادي رائد لنضاله". كما ذكر الملك بأنه
"بعد ما عانق الحرية، حرص الفقيد في نونبر 1994 على زيارة المملكة للتعبير عن امتنانه لها لتضامنها اللامشروط مع شعب جنوب إفريقيا الشقيق. وبهذه المناسبة، قلده والدنا المغفور له جلالة الملك، طيب الله مثواه، بأعلى وسام للمملكة، كعربون على كفاحه الاستثنائي من أجل المساواة والعدالة".
وسجل الملك أن "الفقيد الرئيس نيلسون مانديلا تمكن، بحكمة وتبصر، من إعلاء القيم العالمية للحرية والعدالة والسلام والتسامح. كما تمكن بعزم قوي من إبراز المثل التي آمن بها وموقفه الثابت من أجل الحفاظ على السيادة الوطنية والوحدة الترابية لمجموع الدول الإفريقية الشقيقة". وأشار الملك محمد السادس في ختام برقيته إلى
"أنه خلال توليه مقاليد الحكم، احترم الراحل شرعية المغرب في صحرائه ولم يرغب أبدا في الاعتراف أو دعم تقسيم أو تجزيء بلادي".