واعتمد القاضي في إصداره للحكم الذي يشكل سابقة في تاريخ القضاء المغربي على عدد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل والذي سبق للمغرب أن صادق عليها، كما اعتمد على الدستور المغربي الذي تم اعتماده سنة 2011، لينهي بذلك هذا الاجتهاد القضائي ما كان يجري به العمل منذ صدور أول مدونة للأحوال الشخصية سنة 1957، حيث كان القضاء المغربي يرفض الاعتراف بنسب الأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج.
وكان القضاء المغربي قد استقر سواء في ظل مدونة الأحوال الشخصية لسنة 1957، أو في ظل مدونة الأسرة لسنة 2004 على عدم الاعتراف بنسب الطفل المولود خارج اطار مؤسسة الزواج.
وسبق للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) أن أكد عدم الاعتراف بنسب الطفل المزداد خارج مؤسسة الزواج، في حكم أصدره بتاريخ 30 مارس 1983 حيث جاء فيه "لا يلحق نسب البنت المولودة قبل عقد الزواج وإن اقر الزوج ببنوتها ، لأنها بنت زنا وابن الزنا لا يصح الإقرار ببنوته ولا استلحاقه...".
ملخص القضية
في أواخر سنة 2016، قامت سيدة برفع دعوى قضائية أمام محكمة قضاء الأسرة بمدينة طنجة، تشتكي فيها شخصا رفض الاعتراف ببنته التي أنجبتها خارج إطار الزوجية، رغم أن الخبرة الطبية أثبتت نسبها إليه، وطالبت من المحكمة الحكم بإثبات نسب البنوة للمدعى عليه، مع أدائه النفقة لها منذ تاريخ ولادتها.
فيما اعترض المدعى عليه، مقدما نصوصا من القانون الجنائي ومدونة الأسرة تعضد ما ذهب إليه، حيث ينص الفصل 490 من القانون الجنائي على أن "كل علاقة جنسية بين رجل وامراة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة الفساد ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد الى سنة"، فيما تنص المادة 144 من مدونة الأسرة على أن "تكون البنوة شرعية بالنسبة للأب في حالات قيام سبب من أسباب النسب، وتنتج عنها جميع الآثار المترتبة على النسب شرعا"، وتنص المادة 146 من المدونة على أنه "تستوي البنوة للأم في الآثار التي تترتب عليها سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية"، كما تنص المادة 148 من مدونة الأسرة على أنه "لا يترتب على البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية".
حيثيات الحكم
اعتمدت هيئة الحكم في إصدار قرارها، على حيثيات غير مسبوقة، حيث لجأت لتعليل قرارها بنصوص الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل التي وقع عليها المغرب، وبنصوص من دستور سنة 2011.
وجاء في نص الحكم:
"بالنسبة للاتفاقيات الدولية:
حيث يؤخذ من الفقرة الأولى من المادة الثانية من اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها المغرب بتاريخ 21/6/1993 أن القضاء يتوجب عليه إيلاء الإعتبار الأول لمصالح الأطفال الفضلى عند النظر في النزاعات المتعلقة بهم.
كما تنص المادة 7 من نفس الاتفاقية على أن الطفل يسجل بعد ولادته فورا ويكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما.
وتنص الإتفاقية الأوروبية بشان حماية حقوق الطفل الموقعة بستراسبورغ بتاريخ 25/1/1996 والتي صادق عليها المغرب بتاريخ 27/3/2014، في الفقرة الأولى من المادة السادسة على ما يلي: "في الإجراءات التي تشمل الطفل – تقوم السلطة القضائية – قبل اتخاذ القرار: بدراسة هل لديها معلومات كافية تحت يدها من أجل اتخاذ قرار في صالح الطفل، وعند الضرورة – الحصول على معلومات إضافية،".
وتنص المادة السابعة من نفس الاتفاقية والمتعلقة بواجب العمل بسرعة على أن "في الإجراءات التى تشمل الطفل، تعمل السلطة القضائية بسرعة لتجنب أي تأخير غير لازم، وتكون الإجراءات مناسبة لضمان تنفيذها على وجه السرعة، وفي الحالات العاجلة تكون للسلطة القضائية الصلاحية، متى كان ذلك مناسباً، لاتخاذ القرارات التي تنفذ على الفور".
بالنسبة للدستور: ت
نص الفقرة الثالثة من المادة 32 من دستور 2011 على أن: "الدولة تسعى لتوفير الحماية القانونية والإعتبار الإجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعهم العائلي".
وانطلاقا من هذه النصوص قضت المحكمة الابتدائية بمدينة طنجة في حكم غير مسبوق بالاعتراف بالبنوة من دون النسب، اعتمادا على نتائج الخبرة الطبية التي أثبتت العلاقة البيولوجية بين المدعى عليه والبنت، فيما رفض الحكم بالنسب حسب ما تنص المادة 144 من مدونة الأسرة.
كما قضت المحكمة برفض طلب المدعية بإلزام المدعى عليه بتحمل نفقة البنت، وعللت المحكمة قرارها بكون النفقة من آثار النسب الشرعي. لكنها وفي أول سابقة لجأت إلى إعمال قواعد المسؤولية التقصيرية لتلزم الأب البيولوجي بدفع تعويض للمدعية نتيجة مساهمته في إنجاب طفلة خارج إطار مؤسسة الزواج.
وقد جاء في حكم المحكمة :
"حيث يؤخذ من الحكم الجنحي عدد 4345 بتاريخ 2016/03/16 في الملف 278/16/2012 الصادر عن هذه المحكمة أن المدعى عليه توبع من أجل جنحة الفساد، وأدين بشهر واحد موقوف التنفيذ، وهو الحكم الذي أصبح نهائيا بعد تأييده استئنافيا.
وحيث لما ثبتت المسؤولية الجنائية للمدعى عليه بارتكابه للفعل الجرمي المذكور والذي نتج عنه ولادة الطفلة تكون العناصر القانونية لقيام المسؤولية المدنية ثابتة في نازلة الحال، وفقا لما ينص عليه الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه: كل فعل ارتكبه الانسان عن بينة واختيار ومن غير أن يسمح به القانون، وأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير، ألزم مرتكبه بتعويض عن الضرر، اذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر".
وهكذا ارتأت المحكمة بعد ثبوت علاقة البنوة بين البنت والمدعى عليه، وما يستلزمه ذلك من رعايتها والقيام بشؤونها ماديا ومعنويا والحفاظ على مصالحها كمحضونة، وما يتطلبه ذلك من مصاريف أن تمنح المدعية تعويضا يحدد في مائة ألف درهم".