لم نفتأ نحن نذكّر أن العقائد لا يمكن تقويمها بالعنف الكلامي أو اللفظي أبدا؛ وكل انصياع قد يبدو في الظاهر من أصحاب العقائد المنحرفة، فإنما هو تأجيل للمواجهة فحسب. وكل من يوظف أجهزة الدولة من أصحاب العقائد (وهذا يحدث)، لمحاربة العقائد المخالفة، فإنه يزيد من حدة الأزمة بين الحكومات وبين الشعوب. نعم، قد يفلح ذلك وقتيا في بعض الدول؛ ولكنه سيؤدي إلى صراع أشد، مع الجوار؛ علما بأن الشعوب العربية، هي شعب واحد في الأصل.
ونحن عندما ندعو إلى إعطاء التصوف فرصة لإطفاء نار الفتنة التي بدأت تستعر بين مكونات الأمة، فإننا لا نريد أن نعود بذلك إلى الغيبوبة أو إلى الانسحاب من الواقع الصعب؛ وإنما نريد أن نُعيد إلى التزكية بعض مكانتها لدى الأمة. وإننا نرى جدوى هذه التزكية، من وجهين:
1. إن التزكية، تعمل على ضبط تحكم الناس في غرائزهم وانفعالاتهم. فهي بهذه المثابة "فرامل" و"واقيات صدمات"، تعطي الأمة فرصة لمراجعة مواطن الاختلاف لديها، بهدوء وبرودة أعصاب.
2. إن العلم الذي يكتسبه المرء مع التزكية، يجعله على بيّنة من المسائل العقدية الخلافية لدى الأمة، بكيفية لا قِبل للعقل وحده بها، عن طريق الدراسة. ومن ثَم يستطيع المرء معرفة مرتبة خصمه والتدرج به إلى محل "نقط الالتقاء" شيئا فشيئا؛ وما أكثرها!..
إن التصوف الذي أصبحت غالبية الأمة تنفر منه، على غير علم منها بسبب النفور، إلا ما ترسخ لديها من أباطيل، عملت على إشاعتها جهات لا تسعى إلا إلى تجريد الأمة من أسلحتها الحقيقية، يعمل (أي التصوف) كالزيت المقللة للاحتكاك داخل المحركات؛ بخلاف العقائد الأيديولوجية التي ابتليت الأمة بها؛ فإنها تقوي الاحتكاك، وترى ذلك أمرا ضروريا لبلوغ غاياتها. وشتان ما بين الطريقين!..
إن فقه الاختلاف، الذي يتكلم عنه كثيرون، دون إدراك لحقيقته، لم يحُزه على الكمال إلا الصوفية عبر الأزمان، بوسعهم لجميع الأطراف؛ حتى اتهموا في دينهم بسبب تلك السعة. لكن الأمر في زماننا، لم يعد خيارا تَرَفِيا، نقبله أو نرفضه بحسب الأمزجة والأهواء؛ وإنما أصبح ضرورة استراتيجية، لمن كان حريصا على المصلحة العامة، وعلى أمن الأوطان خصوصا.
وإن الدوائر السياسية التي لها القطع في توجهات الأمة، وفي توجهات الدولة أولا، لا بد أن تجدد نظرتها إلى عناصر مسألة الخطاب الديني، وإلى مدى نجاعته حالا ومآلا؛ وإلا فإن الأمور إذا انفلتت واتسع خرقها، فإنه يصعب بعد ذلك التحكم فيها... ولات حين مندم!