رئيس حكومتنا المغربية وقع بدوره ضحية إغراء هذا الخطاب الديماغوجي، وهو أمر طبيعي يعود إلى القرابة الإيديولوجية والفكرية والعقدية الموجودة بين إخوان مصر وإخوان المغرب، مما جعل الرجل يركب الموجة ويعتبر حزبه "حزبا إلهيا"، ليس بهذا التعبير المباشر، بل من خلال التخريجة التالية: إن "الله هو الفاعل" (يقصد في السياسة)، وأن هدف حزب المصباح هو الله وليس الحكم والسلطة، وهو ما يعني أن الحزب المذكور إنما يفعل بإرادة الله وتوفيقه، ولا يتحرك ولا يصدر قراراته إلى بترشيد وإلهام من الله، الفاعل الأول والحقيقي، وأن هدف حزب المصباح من الدخول في الانتخابات وخوض الصراع السياسي هو هدف ديني هو وجه الله، وهو ما ينجم عنه أن اختيارات الحزب إنما هي اختيارات الله، ومخالفتها أو نقدها لن تكون بالطبع إلا "جرأة على الله"، كما تعودنا أن نسمع من خطباء الحزب ودعاته.
هكذا يكون الله تعالى من قرّر زيادة درهمين في ثمن البنزين، ومن نقض وعده وقرر التخلي عن تشغيل المعطلين، ومن تحالف مع المفسدين وعفا عما سلف من كبائرهم، ومن عجز عن تدبير أبسط المشاكل المالية للحكومة، ومن لم يوفق في وضع القوانين التنظيمية التي ينصّ عليها الدستور، ومن طأطأ رأسه أمام مافيات المناجم التي تنهب الثروات المعدنية على حساب السكان المستضعفين، ومن مازال يستمر في إنتاج الرداءة في التلفزيون، ومن أعلن بأن الدستور الحالي والانتخابات الأخيرة يمثلان قطيعة مع الاستبداد، ومن يتناقض كل يوم ويقول الشيء ثم ضدّه ويتلوّن بألف لون، إلخ ،، إلخ .
بهذا التصريح أمام شبيبة حزبه، يعود بنا السيد بنكيران أربعة عشر قرنا إلى الوراء، ويثبت لنا بأنه لم يستفد شيئا من نكسة الإخوان وسقطتهم، وأنه بصدد السير على نهجهم رغم كل الدروس والعبر الظاهرة للعيان.
يذكرنا رئيس حكومتنا الذي ابتلينا به بمأساة طبعت تاريخ الإسلام منذ القرن الأول، وهي المسمّاة "الفتنة الكبرى"، والتي انفجرت في عهد عثمان بن عفان وانتهت إلى تكريس استبداد المُلك الوراثي والعصبية القبلية العربية الأموية التي قامت على النهب والسلب والغنيمة واستغلال الدين في الدولة لأغراض السياسة والنصب على الناس.
نُذكر السيد بنكيران بأن الشرارة الأولى للفتنة كانت قول الخليفة عثمان في ردّه على منتقديه السياسيين الذين طالبوا بخلعه: "والله لن أخلع قميصا ألبسنيه الله !"، فحوّل بيعة الناس له إلى تفويض إلهي، كما نُذكر رئيس حكومتنا بأن الخلفاء الأمويين أقاموا ملكهم على اعتبار المال "مال الله" وليس مال المسلمين، واعتبرو أن "الله هو الفاعل بإرادته "وليس الإنسان، لكي يبعدوا مسئولية أفعالهم عن أنفسهم، فقتلوا معارضيهم الذين أكدوا أن الإنسان حرّ مسئول عن أفعاله ويحاسب عليها، ومنهم معبد الجهني وغيلان الدمشقي وعمرو المقصوص.
نُذكر السيد بنكيران أيضا بأن منطلق حكومته طبقا للدستور هو ما سمته "ربط المسئولية بالمحاسبة"، وهو مبدأ ديمقراطي صميم، فمن نحاسب إذا كان الله هو الفاعل في السياسة ؟
نذكر أيضا من بحاجة إلى تذكير بأن تأسيس الأحزاب والمشاركة في الانتخابات إنما يكون بهدف الوصول إلى السلطة وتدبير الشأن العام في ظل القانون وهذا من حق كل واحد، وليس الهدف والغاية من العملية السياسية هو "الله" كما يزعم رئيس الحكومة، وأن هذا الإصرار على إخفاء الحقيقة والتحذلق في العبارات لا يؤدي إلا إلى المزيد من فقدان الثقة والمصداقية، عكس ما يعتقد رئيس الحكومة، الذي ما زال لا يعرف بأن استغفال الجماهير وتخديرها بالعواطف لا يمكن أن يغني عن ثقة النخب السياسية والمدنية الديمقراطية.
يقول "البيجيديون" إن حزبهم ليس حزبا دينيا، وأنه حزب سياسي مثل غيره من الأحزاب، لماذا إذن ينفرد لوحده بإقحام الله في السياسة وجعله فاعلا في تسيير الشأن العام بجانب حزب المصباح ؟ وإذا لم تكن اللعبة قد انطلت على المسلمين قبل أربعة عشر قرنا، فقتلوا الخليفة الثالث وحاربوا الأمويين إلى أن أسقطوا دولتهم، كما لم تنطل على المصريين اليوم، فخرجوا عن بكرة أبيهم ليقولوا للمرشح الإلهي والرئيس الرّباني "إرحل !"، فهل يعتقد السيد بنكيران بأن اللعبة ما زالت صالحة لأن تعاد؟
نتفهم أن السيد بنكيران في ورطة كبيرة هذه الأيام، وأن أتباعه وأصدقائه يمرون بتجارب مريرة ومحن كثيرة ترهق أعصابهم، كما نعلم أن تجربتهم القصيرة في الحكومة أبانت عن نقص كبير لديهم في الخبرة والكفاءة، لكن ذلك ليس مبررا لأن يقحموا الله بيننا وبينهم، لأننا ننتقد الحكومة نقدا سياسيا، وننتظر منها إنجازات سياسية على الأرض، ونعتبر أعضائها بشرا يخطئون ويصيبون، ولهذا لا ينبغي أن يصل بهم الاستخفاف بالمغاربة وبذكاء الناس إلى هذا الحدّ المثير للشفقة.