يمثل السماع الصوفي جانبا من الهوية المغربية، توارثه المغاربة و تناقله عبر الأجيال، وهو ما تظهره قوة انتشار المؤسسات الحاضنة للعمل الديني في المجتمع المغربي، من زوايا ومساجد وجمعيات تساعد بدورها في الحفاظ على هذا التراث العريق .
كما أن الدول تشجع هذا النوع من الموسيقى عن طريق إحياء حفلات ومهرجانات ذات طابع روحي ووجداني بمختلف مدن المملكة، أهمها مهرجان فاس للثقافة الصوفية و مهرجان الموسيقى العالمية العريقة.
ويتيح هذين المهرجانين للمغاربة فرصة اكتشاف وإعادة اكتشاف جذور ثقافته، إضافة إلى الاستمتاع بالغنى الفني والفكري والروحي لهذا الفن، كما يسعيان للتعريف بالصورة الإيجابية للإسلام على الصعيد الدولي عبر اختيار الصوفية كرسالة لتحقيق الإشعاع المطلوب، بفضل طابعها الروحي ولغتها العالمية، ودعوتها للانفتاح والسلام.
فبين الكلام الهادف واللحن الشجي، تعتبر الموسيقى الصوفية رافدا أساسيا من روافد الذاكرة الفنية المغربية، تتلون مواضيعها بألوان الذكر والمديح النبوي و العشق و السلام.
المحبة الإلهية
وفي محاولة للتعرف عن قرب على هذه الموسيقى، اتصلنا في موقع "يا بلادي" بمحمد التهامي الحراق، الباحث والفنان المغربي والمسؤول الثقافي والفني عن "مؤسسة الذاكرين للأبحاث الصوفية وموسيقى السماع" و قال "إن المقصود بالسماع الصوفي بصفة عامة هو الذكر والإنشاد والإيقاعات الخاصة بالمنشدين والمترددين على محافله، كما يعتبر أيضا وسيلة من وسائل التربية و التأهيل داخل النفق الصوفي، التي يتم بموجبه إنشاد أشعار و كلام الصوفية مصحوبة بأنغام و إيقاعات مؤثرة، يستمد معاييره و أصوله من القرآن و السنة، وغايته الأساسية هي التعرف و التقرب من الله عز و جل".
وأكد محدثنا على ضرورة التمييز بين السماع والمديح، فالسماع بحسبه "يدور حول المناجاة والحضرة الإلاهية من خلال استعمال رموز ومعاجم شعرية وغزلية مفادها التعرف والتقرب إلى الله عز وجل أما الثاني فهو يتمحور حول الحضرة النبوية، أي كل ما يتعلق بمدح الرسول صلى الله عليه و سلم، مثل أشعار الموروثات التي تتحدث عن موروثه و المعجزات التي رافقته خلال مولده ونشأته، و هناك أيضا أشعار الشمائليات التي تتعلق بتشويق النفوس إلى زيارة البيت الحرام من خلال التعبير عن شوقهم إليه عليه الصلاة و السلام باستحضار وتخليد محاسنه وصفاته".
فيما يؤكد أن "السماع" سمي سماعا لكونه أول ما خلق الله سبحانه وتعالى من الحواس(السمع) استنادا لقوله تعالى "الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون".
أرض الأولياء و الزوايا
ترجع بدايات ظهور فن السماع والموسيقى الصوفية بالمغرب إلى منتصف القرن السابع للهجرة ويحكي الحراق أنه انتعش تحديدا مع بداية ظهور احتفالات عيد المولد النبوي الشريف لـ"يشهد تطورا كبيرا في عهد المرينين ثم الوطاسيين والسعديين وصولا إلى العلويين، حيث يترأس أمير المؤمنين كل سنة، الحفل الرسمي لهذه المناسبة بحضور مجموعات من المنشدين (المسمعين) والعازفين".
ويضيف التهامي الحراق أن فن السماع الصوفي "يمتح من جمالية وروح التراث المغربي المتميز شعرا ونغما وإيقاعا وأداء وتداولا، حيث يساهم المنشدين المغاربة في رسم ملامحه المتفردةِ بتوظيف قواعد أدبية وطربية من خلال الإبداع في أداء القصائد الصوفية من قبيل البردة والهمزية للبوصيري، والألفية لابن رشد البغدادي، والمنفرجة لابن النحوي وغيرها، مما جعل سماع أهل المغرب متميزا عن السماع الصوفي في الشرق الإسلامي".
فبالرغم من ظهور الإيقاعات الشبابية، بحسب الحراق "إلا أن هناك صحوة كبرى من الشباب، الملمين بالفنون التراثية الأصيلة، والذين يساهمون بدورهم في تقديم مادة روحية مستمدة من الخلفية الصوفية التربوية و الروحية، وهوما يلعب دورا إيجابيا في ازدهار عدد كبير من المراكز والجمعيات التي تحتضن مجالس السمع وتوطد أسسه العلمية الموسيقية وتجدد آفاقه الشعرية والإيقاعية".
وبحسب الحراق فإن المديح والسماع يحتل مكانة متميزة في المشهد الغنائي الموسيقي الروحي، وذلك بفضل المحافل و المهرجانات التي أصبحت تقام لهذا الغرض، إلى جانب الجهود التي تبذلها "إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم"، من خلال العناية التي توليها لهذا التراث العريق والعمل على ترسيخه.
وشدد الحراق على ضرورة التفات الإعلام المغربي إلى هذا الفن لتشجيع الشباب" أكثر في نشر خطابه الديني و الروحي و الاجتماعي".
شفاء روحي
لا يقتصر السماع الصوفي على الشعر والإنشاد والغناء، إنما هو دروس باطنية، وجدانية، توحيدية، ربانية. حيث يؤكد الحراق بهذا الخصوص "أن مجالس السماع تزرع في نفوس المترددين عليها، قيما جمالية راقية، تساهم في ترويض القلوب و تزكيتها".
ففي السماع يتطهر الإنسان من أعباء الحياة وشقاءها وتنحت هويته من خلال تربية سلوكه و أفكاره و بالتالي تهذيبه و توجيهه نحو ما هو أفضل وأرقى لتكوين هوية أكثر توازنا واستقرارا من سابقتها "مشيرا إلى أنه شفاء تربوي ووجداني للروح، لما له من تأثير على نفسية الإنسان، حيث يلعب دورا إيجابيا في حياة الفرد والرفع من معنوياته وقدراته و يرسخ فيها معاني التسامح والطهارة".
كما أن هذا الفن بحسب محدثنا "ليس حكرا على الرجال، بل ينشده ويتغنى به الجنس النسوي أيضا، وخير مثال على ذلك للارحوم البقالي ومجموعتها للحضرة الشفشاونية باعتبارها أول فرقة صوفية نسائية عربية وإسلامية تشارك في المهرجانات العالمية. تأسست المجموعة منذ سنة 2004 لتضفي بذلك طابعا نسويا على الساحة و لتثبت أن النساء قادرات على الإبداع والتميّز، شأنهن شأن الرجال".