في السادس من شهر نونبر من سنة 1955، وقع السلطان محمد الخامس ورئيس مجلس الوزراء الفرنسي انطوان بيني على اتفاقيات لاسيل سان كلو، التي وضعت حدا لمنفاه في الخارج، معلنة بذلك بدء مسلسل المفاوضات حول استقلال المغرب.
وتنص الوثيقة التي وقعت في قصر لاسيل سان كلو ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، على أحقية المغرب في أن يرتقي إلى دولة حرة مستقلة ذات سيادة لها ارتباطات حرة ودائمة مع فرنسا. هي ما سيعرف فيما بعد بالاستقلال داخل الترابط الحر.
وعلى الرغم من أن حزب الاستقلال تكفل فيما بعد بمواصلة المشاورات والمفاوضات مع سلطات الحماية، إلا أن قوى سياسية أخرى عارضت الاتفاق، ولم يخف محمد بن عبد الكريم الخطابي من منفاه في مصر معارضته لما نص عليه الاتفاق، وأسس "هيئة الريف" وحاول العودة إلى العمل المسلح من جديد.
واعتمدت الهيئة السياسية التي أسسها الخطابي، والتي اتخذت أيضا طابعا عسكريا، على دعم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي كان قد قاد بنجاح تمردا عسكريا أدى إلى الإطاحة بالنظام الملكي في أرض الكنانة سنة 1952، وكان الزعيم المصري آنذاك يعارض حصول المغرب على الاستقلال في الوقت الذي لا زالت فيه الجزائر ترزح تحت نير الاستعمار.
ورأى الرئيس المصري آنذاك أن اتفاقيات لاسيل سان كلو "عمل خياني"، بحسب ما كتب محمد بنسعيد آيت يدر في تقديمه لكتاب " الهيئة الريفية، ملف وثائقي"، وهو من منشورات مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات، وقام الخطابي في منفاه باستدعاء قادة جيش التحرير في المغرب والجزائر وتونس وأقنعهم بتوقيع وثيقة تندد بالاتفاق الذي أبرمه محمد الخامس مع السلطات الفرنسية.
الخطابي وحلم الثورة حتى نيل الاستقلال
وعمل الخطابي من منفاه على الإعداد لإطلاق عملية مسلحة من الريف، وقالم بتدريب عدد من الشباب في الأكاديميات العسكرية المصرية والسورية والعراقية، ثم أرسلهم إلى شمال المغرب.
وكان مخططا أن يتولى حزب الشورى والاستقلال بقيادة محمد حسن الوزاني توزيع هؤلاء الشباب في مختلف أنحاء المغرب، ولم يكن اختيار هذا الحزب عشوائيا فقد كان زعيمه والأمير الخطابي يتقاسمان معا العداء لزعيم حزب الاستقلال علال الفاسي وأيضا للمهدي بنبركة.
رسميا كانت "هيئة الريف" تحت قيادة حزب الشورى والاستقلال، لكن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي هو الذي كان يحرك خيوطها من منفاه في القاهرة، وهو ما توضحه الرسائل المتبادلة بينه وبين أتباعه والتي نشرت في الكتاب سالف الذكر.
ففي واحدة من هذه الرسائل، (صفحة 26 من الكتاب) المؤرخة في 17 ماي 1956، قام 25 شخصا من أتباع الخطبي بوضع كمين "للعدو" الفرنسي والإسباني ومؤيدي حزب الاستقلال في صفوف جيش التحرير.
لكن "هيئة الريف" فشلت في تغيير الوضع على أرض الواقع، وتمكن علال الفاسي وحزب الاستقلال من فرض تفوقهم، وعانى أتباع عبد الكريم الخطابي وحزب الشورى والاستقلال، من القمع على يد أتباع علال الفاسي في سوق الأربعاء وغفساي، وتم اقتيادهم إلى مراكز الاحتجاز.
وقد ساهم عدم وصول الأسلحة إلى أتباع الخطابي في فشل مخططه لإطلاق ثورة جديدة، كما أن عدم اهتمام أعيان وأغنياء منطقة الريف بمخطط الخطابي عجل بإفشاله حسب ما يحكي ذات الكتاب في الصفحة 66.
ورغم ذلك استمر الخطابي في مطالبة أتباعه بربط قنوات الاتصال مع أغنياء منطقة الريف، من أجل إقناعهم بالانضمام إلى مشروعه، ولكن الريف الذي غادره الأمير الخطابي في سنة 1927 كان قد تغير كثيرا.
بعد ذلك وقع رجال "هيئة الريف" في قبضة الشرطة المغربية التي كان يشرف عليها محمد الغزاوي بصفته مديرا عاما للامن الوطني، علما أنه كان يشغل في نفس الوقت منصب مدير المخابرات السرية المغربية، بحسب ما يكشف عنه الكتاب الذي نشره مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات.
لكن بعد أقل من سنتين على فشل "هيئة الريف" في السير في المسار الذي رسمه لها محمد بن عبد الكريم الخطابي، اندلعت انتفاضة في الريف، وتم قمعها بوحشية من طرف القوات المسلحة الملكية، ما خلف العديد من القتلى والجرحى ومجهولي المصير.