الرابع من شهر غشت من سنة 1578، كان يوما فارقا في تاريخ المغرب، إذ قضى السعديون على التواجد البرتغالي في البلاد، وتوسعوا جنوبا حتى وصلوا إلى ما وراء نهر النيجر، وشرقا إلى بلاد النوبة المتاخمة لصعيد مصر.
المغرب قبل معركة وادي المخازن
قبل عقود قليلة من تولي السعدين زمام الأمور في المغرب كان التواجد الاسلامي في الأندلس قد بدأ يضعف، وبدأ الملك فيرنانديو والملكة إيزابيلا، في احتلال المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى إلى أن سقطت في أيديهم غرناطة آخر قواعد المسلمين سنة 1492.
وكانت هزيمة بني الأحمر في الأندلس بمثابة هزيمة للمغرب الذي دأب على دعم التواجد الإسلامي بالأندلس على امتداد ثمانية قرون، وهو ما جعل البرتغاليين والاسبان والعثمانيين يرون أن الفرصة سانحة للإجهاز على المغرب الذي مزقته التطاحنات السياسية الداخلية.
وآنذاك تمركز الصراع بين الاسبان والعثمانيين والبرتغاليين خاصة في الشمال الإفريقي، وفي بلاد المغرب الأقصى تحديدا، فقد سعى الأتراك إلى ضم المغرب في محاولة منهم لتأمين حدود الخلافة العثمانية، ثم توظيف الموقع المغربي في مهاجمة غربي أوربا.
فيما اتجهت أطماع الإسبان والبرتغال نحو المغرب منذ الانتصارات الأولى، التي أحرزوها في الأندلس في إطار ما يسمونها "حروب الاسترداد"، وازداد اهتمامهم بالمغرب على إثر حركة الاكتشافات الجغرافية وتوسعهم في ميدان الملاحة البحرية، وكانت بلاد المغرب مغرية بثرواتها لهم، ومعادنها وطرقها التِّجارية نحو إفريقيا جنوب الصحراء، وموقعها الإستراتيجي المطل على حوض البحر المتوسط من جهة المحيط الأطلسي من جهة أخرى.
أما داخليا ففي سنة 1554 قامت الدولة السعدية في المغرب على أنقاض الدولة الوطاسية، وفي سنة 1574 توفي السلطان عبد الله الغالب، وتولى زمام الأمور ابنه محمد الذي سمى نفسه بالمتوكل على الله، وحاول حكم البلاد بقبضة من حديد، وفتك بأقرب المقربين منه ليرسخ في ذهن رعيته أنه لا يرحم مخالفيه مهما بلغت درجة قرابتهم منه، وبدأ بإخوانه فقتل منهم اثنين و سجن ثالثا، وخاف عمه عبد المالك الملقب بالمعتصم بالله، أن يبطش به ولجأ رفقة أخيه أحمد إلى السلطان العثماني سليم بن سليمان، وطلب منه نجدته ومعونته ليزيح ابن أخيه عن الحكم، فكان له ما أراد وهزمه في فاس في مار 1576 ثم بسط سلطانه بعد ذلك على مراكش، ففر منه المتوكل إلى سوس و منها إلى سبتة ثم طنجة حيث طلب معونة ملك البرتغال سيباستيان، الذي رأى في الأمر فرصة سانحة لتوسيع حدود إمبراطوريته.
وكان من غير المقبول لدى المغاربة أن يستعين واحد من أمرائهم بخصومهم في الدين لحل نزاع داخلي، وهو ما يفسر قلة عدد من قرروا اللحاق به، إذ لم يتجاوز عددهم حسب ما تحكي بعض الروايات التاريخية 600 شخص.
معركة وادي المخازن..يوم الحسم
رأى ملك البرتغال الشاب سيباستيان في لجوء المتوكل على الله إليه وطلب معونته، فرصة لن تتكر لاحتلال المغرب، وفي 24 يونيو من سنة 1578 غادر الجيش البرتغالي لشبونة واتجه على متن عدد كبير من القوارب إلى مدينة طنجة حيث رست بشواطئها السفن في اليوم الثامن من يوليوز، وكان المتوكل بانتظار وصولها، وتابعت بعد ذلك السفن إبحارها إلى ميناء أصيلة حيث كان المتوكل قبل خلعه قد مكن البرتغاليين من الاستيلاء عليها.
وتحرك السلطان السعدي بجيوشه من مراكش قاصدا القصر الكبير، وكان محمولا على محفة بسبب المرض الذي منعه من ركوب فرسه، وأرسل إلى أخيه أحمد بفاس يأمره بأن يخرج إليه بجند فاس وأن يتهيأ لحرب فاصلة سيتقرر معها مصير المغرب.
وبلغ تعداد جيش سيباستيان حسب ما تحكي العديد من الروايات التاريخية مائة وخمسة وعشرين ألف مقاتل ومزودا بما يفوق أربعين مدفعا ويضم إضافة للبرتغاليين عشرين ألف إسباني، وثلاثة آلاف ألماني، وسبعة آلاف إيطالي بالإضافة إلى جنود المتوكل الذين لم يتجاوزوا ستمائة.
أما جيش السعديين فقد بلغ عدده أربعين ألفا فيهم الجنود النظاميون والمتطوعون ومعهم ما يناهز عشرين مدفعا، وقد أبى العثمانيون إلا أن يدلوا بدلوهم إلى جانب المغاربة فأرسلوا كتيبة من المقاتلين المتمرسين يرأسهم القائد رضوان الذي عرف بمهارته في استخدام المدافع.
ولما رأى المعتصم بالله بأن جيشه أقل عدة وعددا من جيش سيباستيان، فكر في اللجوء إلى الحيلة وحالول استدراج خصمه إلى المكان الذي يحدده هو ورجاله سلفا، وحين استقر رأيه على اختيار ساحة فسيحة مشرفة على وادي المخازن كتب إلى ملك البرتغال الذي كان قد اتخذ من أصيلا مقرا لقيادة عملياته وخاطبه قائلا "إني قطعت للمجيء إليك ست عشرة مرحلة، فهلا قطعت أنت مرحلة واحدة لملاقاتي"، وهو ما كان وسقط الجيش البرتغالي في الفخ.
في الرابع من غشت من سنة 1578 التقى الجيشان، فانطلقت النيران من الجانبين تحصد أرواح المتحاربين واندفع الفرسان والمشاة إلى ساحة المعركة، وأثناء ذلك اشتد المرض بالمعتصم بالله فنقل إلى خيمته وهناك فارق الحياة، وتم إخفاء أمر موته حتى لا تنهار معنويات الجنود المغاربة.
وكانت الغلبة للجيش المغربي الذي تمكن بمساعدة دهاء المعتصم بالله من التفوق على البرتغاليين، ودامت المعركة حوالي أربع ساعات ونصف فقط.
وقتل من الجيش البرتغالي حوالي 12 ألف جندي، من بينهم الملك سيباستيان، فيما أسر حوالي 16 ألفا، وفقد جيش السعديين حوالي 1500 جندي.
فيما وجدت جثة المتوكل على الله طافية على نهر وادي الخازن، إذ قضى غرقا أثناء محاولته الفرار بعد تأكده من هزيمة البرتغاليين، فسلخ وحُشِي تبنا وطِيف به في أرجاء المغرب ولذلك أطلق عليه لقب المسلوخ، ولأن معركة وادي المخازن شهدت وفاة ثلاثة من الملوك فقد أطلق عليها المؤرخون اسم معركة الملوك الثلاثة.
ما بعد المعركة
انتهت المعركة وحقق المغاربة نصرا شكل علامة فارقة في التاريخ، وتمت مبايعة أحمد أخ المعتصم بالله سلطانا على المغرب ولقب بأحمد المنصور الذهبي، وفتحت المعركة الباب أمام بناء دولة قوية في المغرب الأقصى، ودام عهد المنصور الذهبي حوالي ست وعشرين سنة، واعتبرت فترة حكمه أزهى عهود الدولة السعدية رخاء وعلما وعمرانا وجاها وقوة.
على الجانب الآخر إنهارت البرتغال عسكريا وسياسيا واقتصاديا بعد موت سبستيان، وعمل حكام إسبانيا على ضمها إلى بلادهم بعد انهزام بقايا السلالة البرتغالية الحاكمة في معركة القنطارة قرب لشبونة، وبقيت البرتغال تحت حكم الاسبان لما يقارب المائة سنة.