بين الموقفين بون شاسع يجعلنا نتساءل عن السبب الذي جعل الناس ينقسمون هذا المنقسَم، ويقع بينهم هذا القدر من الشنآن.
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بدون تأمل وفحص ما حدث خلال السنة المنصرمة من حكم محمد مرسي والإخوان، كما لن نفهم الأسباب التي جعلت الكثيرين في مصر يتنفسون الصعداء أمام مشهد استيلاء العسكر على السلطة، عوض استنكار هذا السلوك الذي ينبغي أن يكون محط إدانة الجميع، إذ المكان الطبيعي للجيش هو الثكنات والثغور لحماية البلد من أي تهديد خارجي، وليس كراسي السلطة والتسيير.
جاء صعود الإخوان إلى سُدة الحكم في سياق ما عرف بثورة 25 يناير، وهي الحدث الذي استقطب اهتمام العالم بأسره نظرا لأهمية الدور المصري في المنطقة، ولتاريخ هذا البلد العريق، غير أن بروز دور الفاعل الإسلامي في هذه الثورة اكتنفه الكثير من الغموض بسبب تعارض المشروع الإسلامي مع أهداف الثورة، حيث اتضح منذ بداية التحاق الإسلاميين بثورة الشارع ـ بعد تردّد ـ وجود تحفظات وجدال حول الأهداف الحقيقية لهذه الانتفاضة الشعبية، غير أن انقسام قوى الشارع بين أزيد من ثمانين حزبا إضافة إلى مقاطعة نسبة هامة من شباب الثورة والفاعلين الرئيسيين في الشارع للمسلسل الانتخابي، جعل الآليتين الانتخابيتين الأقوى في الواقع هما آلة الإخوان وآلة النظام العسكري الذي استطاع بدهاء تخفيض التوتر بسحب ممثله حسني مبارك من السلطة وتسيير دفة الحكم عبر المجلس العسكري.
لكن تواجد الإخوان في موقع تدبير الشأن العام بعد الانتخابات وضعهم أمام مشكل حقيقي، هل ينتهجون طريق الديمقراطية التشاركية أم يستولون على كل دواليب الحكم لتحقيق حلمهم باستعادة "الخلافة" الضائعة، فالخيار الأول سيجعلهم يتقاسمون السلطة ويستمعون إلى الأصوات المختلفة التي ستفرض لا شك خيارات أخرى، بينما الخيار الثاني يرى ضرورة انتهاز الفرصة التاريخية المتاحة والتي قد لا تتكرر من أجل الاستئثار بالحكم والدولة. ولا نتوفر على المعطيات الدقيقة التي تبين الكيفية التي انقلب بها الإخوان من الخيار الأول الذي أعلنوا عنه غير ما مرة إلى الخيار الثاني فجأة وبدون سابق إنذار، ولكن الذي بدا أن النقاش الداخلي بين قيادات الإخوان قد مالت في اللحظات الأخيرة لصالح موقف الصقور من المتشدّدين ضدّ رأي الحكماء الذين كانت مسئوليتهم التنبيه لحساسية السياق وضروراته، وهكذا اتجه الإخوان نحو إحراق المراحل بهدف الأسلمة الشاملة للفضاء العام، عبر إقرار دستور على المقاس، ثم إصدار "إعلان دستوري" لحماية الرئيس الإخواني من أية محاسبة أو نقض قضائي لقراراته.
كانت تلك بداية النهاية بالنسبة لتجربة الإخوان السياسية، التي كان من تبعاتها الإفراط في أسلمة الأطر الإدارية وأسلمة الفضاء العام على الطريقة الإخوانية التي تنافي طبيعة التدين الشعبي في مصر، وكان من الأمور التي يصعب تجنبها استهداف الفنون والفنانين المصريين، باعتبار ما للفن في مصر من تأثير قوي على الجماهير، وما له من رصيد يمتدّ من الاجتماعي إلى الاقتصادي إلى القيمي، ولهذا لم يكن مستغربا أن تتوجه آلية الإخوان الدعائية ضد الفنّ والفنانين، وكان القصد الرئيسي تحطيم الرموز الكبرى في المخيال الشعبي ومحو الصور والمعالم، والتضييق على الإنتاج بسبب العجز عن احتواء الفن وتحجيمه لصالح التيار الديني، حيث ظل الفن متمردا ومستعصيا على التأطير والتوجيه الإخواني أو السلفي منذ عقود طويلة.
كانت الجهود التي بذلها الإخوان لطمس الفنون في مصر من أسباب هلاكهم وفشل تجربتهم، حيث كانوا يتصورون أن الإيديولوجيا الدينية أقوى من الفن، وذلك لسوء تقديرهم لموقع الفن وقيمته وتاريخه وتجذره في المجتمع المصري. وقد ظهر منذ اعتصام المثقفين والفنانين بوزارة الثقافة لشهور قبل انتفاضة 30 يونيو، بأن النظام (العسكر) سيعتمد بلا أدنى شك وبنسبة كبيرة على التذمر العام للفنانين والمثقفين من غلواء الإخوان، ليتمكن من تسريع وتيرة التصعيد ضدّهم والاستيلاء بعد ذلك على مقاليد الحكم من جديد بشكل مباشر.