أزمة الحداثة
"شي تصويرة أخويا؟" بمجرد نزولي إلى داك المثلث الأخضر هذه أول كلمة سمعتها من عبد الله 52 سنة، يحمل آلة تصوير على صدره يجيىء ويذهب وسط مجموعة من الزوار يأخذون لبعضهم صورا أمام الشلال الأصفر الذي يوجد أسفل منهل المياه، دون أن يعير له أحد أي اهتمام، الكل يحمل هاتفا من الجيل الثالث يلتقط بواسطته عشرات الصور دون أن يكلفه دلك ولو درهم واحد.
اقتربت من الرجل فاستبشر خيرا ظنا منه أنني سأطلب منه التقاط صورة، وحين سألته عن وضعية عمله أول ما تلفظ به قوله:"الخدمة نقصات مع هاد التلفونات ب 80 في المائة"، وأضاف وهو يحن إلى الماضي، في التمانينيات كانت هذه المهنة مدرة للربح، وعرفت رواجا كبيرا، ففي سنة 1984 بالذات كان هنا في مدينة بني ملال 58 استديو، إلا أن العدد الآن لا يتجاوز 3، تتناوب في استغلال هدا الفضاء، وذلك من خلال إرسال مصور أو أكثر من طرف كل استديو ليوم واحد، يتم دلك كله بعد تسلم رخصة من البلدية وتأدية الواجبات الضرورية، ولا يمكن لأي كان أن يأتي ويستغل المكان بطريقة غير مشروعة.
استرسل عبد الله في كلامه متحدثا بأسلوب شعبي عن المهنة والمكان، غالبية الزوار يأتون من خارج بني ملال، خصوصا في عطلة نهاية الأسبوع والعطل الأخرى. بالنسبة لمد خول هذه المهنة ليس منتظما، السبت والأحد ليسا كباقي الأيام وفصل الصيف يختلف عن فصل الشتاء، عائدات المهنة مرتبطة بالظروف الزمانية والجوية، ختم عبد الله حديثه بعد(زفير) منبعث من أعماق جوفه "التلفونات اقضات على المهنة".
الباحث عن لقمة العيش
توحي هيئته ومظهره لمن لا يعرفه على أنه فقيه أو إمام مسجد، إلا أنه ولسوء حظه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، تغلب على لهجته الدارجة و اللكنة الأمازيغية، جلس على كرسي في ممر رئيسي للواحة الخضراء، بجانبه مظلة اصطحبها معه لأن الزمان علمه أن يتخذ الاحتياطات اللازمة في كل شيء . اللازمة التي يرددها على المارة " شي صدقة على الله "، لازمة تعتبر بالإضافة إلى مظهره رأسماله الذي بواسطته يحاول أن يوفر لنفسه وزوجته وبناته ما يحتاجون إليه من ضروريات العيش الكريم.
قدم أحمد 36 سنة من نواحي مدينة تزنيت مند سبع سنوات، هاربا من الظروف المعيشية التي لا ترحم، غادر بلدته التي تنتمي إلى منطقة جبلية لا تصلح لا للفلاحة ولا لغيرها، ولا يوجد فيها أي مشروع تنموي، فهي منطقة مهمشة ومعزولة على حد كلامه.
ومما زاد من تأزم وضعية أحمد، أنه يدفع350 درهم كل شهر مقابل استقراره، بيحث اكترى بأولاد عياد بيتا ومطبخا ومرحاضا مشتركا مع الجران، وله بنتان الأولى تبلغ من العمر 6 سنوات ، وتدرس في السنة الأولى ابتدائي والأخرى 3 سنوات.
كل هذه الظروف وغيرها دفعت أحمد إلى أن يتجه إلى التسول، وبالتالي البحث عن الأماكن التي يمكن أن يجني منها أكبر قدر ممكن من الصدقات، ومن ضمنها عين أسردون.
غير أحمد جلوسه، فتكأ على الكرسي، وشبك أصابعه وهو يتبسم مرة تلو الأخرى محاولا اخفاء ما بداخله من الهموم، وقد ساعده جو المكان وطبيعته الخلابة وهو يتحدث، وكلما طال الحديث أحس بالراحة كأنه يفرغ همومه افرغا، يقول أحمد : أقصد هذا المكان مرة في الأسبوع، مكان جميل لكن لا أقصده للاستمتاع، وإنما أقصده وأنا أفكر في توفير واجبات الكراء وثمن "القفة" من السوق الأسبوعي، وفي الأيام الأخرى أذهب إلى مناطق مختلفة ومدن مختلفة كالدار البيضاء خاصة في وقت الزكاة.
وحينما سألته عن قدر عائداته اليومية، أجاب بأسلوب حكيم : يأتي إلى هذا المكان المحسنون ويوجد محسنون قي مدينة بني ملال بشكل عام يساعدون الفقراء والمساكين، والمعدل المتوسط هنا يتراوح بين 40 و 50 درهم في اليوم، وأضاف أحمد : "المغرب زوين وصعيب" يوجد محسنون، لكن الدولة لا تبحث عن الفقراء ولا تساعدهم، ولكن الحمد لله،"عايشن أعلى قد الحال".
صاحب القبعة الحمراء
بينما كنت متجها يمينا بجانب القناة الرئيسية للمياه، اكتشفت عالما من عوالم العين كما يسميه أهل المنطقة، على مسافة طويلة مجموعة من النساء على جنبات الممر، يبعن "الحريرة" ويقمن بطهي الرغيف في عين المكان، أصوات وضجيج وروائح الطبخ، في هذه الأجواء كلمة يسمعها كل المارة جيدا وتتكرر كثيرا وهي : "ريحو تشربو الحريرة"، وهناك أيضا أكشاك تقليدية وعصرية، وفي أعلى هذا الممر لافتة مكتوب عليها شقق مفروشة للكراء مجهزة بجميع اللوازم خاصة بالعائلات مع رقم هاتفي في أسفلها، وهناك في الأسفل على يمين الممر تقف سيارة الأمن الوطني.
وسط هذا الجناح الجميل من العين، التقيت محمد 50 سنة فنان شعبي، صاحب القبعة الحمراء، يسيح ويجول بين الأكشاك والمقاهي والمجموعات العائلية التي تستمتع بطبيعة المكان، يقدم الفرجة ويأخذ المقابل حسب استطاعة كل واحد، يرضى بالقليل ويفرح بالكثير لأنه ليس مطلوبا، بل الأحرى أنه مجبر لأن أهله وعياله ينتظرون رجوعه ومعه على الأقل مستلزمات الحياة الضرورية.
ينحدر محمد من مدينة قلعة السراغنة، رب أسرة، يكتري بيت في بني ملال ليقترب من استغلال هذا الموقع السياحي، يقوم بزيارة أسرته مرة كل أسبوع. جلست وجها لوجه مع محمد، كان يتحدث حديث الناس البسطاء، يحسن الانصات ويجيب بعفوية تدل على رضاه وطمأنينة قلبه بقضاء الله وقدره، في يده آلته المسماة "لوتار" مكتوب وسطها " غدايدك أولد الفقيرة حتى الآخرة "، وبجوانبها علامات على شكل مثلث مكتوب فيه الله الوطن الملك، وبين أصابعه آلة الضرب التي يسميها " الصدعة ".
وفي معرض حديث محمد عن بدايته في هذه المهنة، أشار إلى أن الظروف هي التي تجعل الإنسان يبحث عن أي شيء ويطرق الأبواب لمسايرة الحياة، لأن الحياة كلها صعاب وعقبات، فقد عملت مع عدد من الفنانين الكبار كالصنهاجي ومصطفى القلعاوي وغيرهما، ولآن أنت ترى تجري الرياح بما لا تشتهه السفن، لكن الحمد لله على كل حال، " كاين الله و الوالدين".
هذا هو مقر عملي
عين أسردون وجهة سياحية بامتياز، مناظر طبيعية جميلة، وأشجار شامخات بينها مساحات خضراء مزينة بالورود، ومما زاد المكان رونقا و جمالا أصحاب تلك الحرف التقليدية الشعبية، ففي وسط الحديقة بين مفترق الممرات جلست " نقاشة " ترتدي جلبابا بنيا وفي يدها إبرة النقش، تنادي على الزائرات.
جلست بجانبها بعد الاستئذان، طلبت منها أن تحدثني عن هذه المهنة، رفضت الكشف عن اسمها و سنها واشترطت على ألا توقع على أي شيء، وفيما يتعلق بالموضوع أول ما بدأت به هو أن هذا المكان مصدر رزقها ولا بديل عنه، تأتي كل يوم بعد ما تنهي أعمالها المنزلية، وما يحتاجه أطفالها الثلاثة من العناية و التربية، وذلك لأن أكبرهم سنا لا يتجاوز عمره 12 سنة، أجبرت على أن تقوم بدور الأب والأم في الوقت نفسه بعد أن توفي زوجها.
وفي هذا السياق، تتحدث هذه السيدة بحماسة قائلة : أعمل ما بوسعي لأوفر لأطفالي ولو الضروريات، رغم شدة المنافسة بين " النقاشات "هنا بحيث أن العدد يصل الآن إلى 20 تقريبا، أما في فصل الصيف فيزداد العدد، بحيث يصل أحيانا إلى 50، من هن الطالبات ومن هن المتعلمات. وبخصوص الدخل تضيف : "تنكمل الوقت غيربصطرتير" خصوصا في الشتاء وكذلك الصيف الآن بسبب تزامنه مع شهر رمضان.
تتعامل هذه السيدة مع الزائرات بكل تفان ولباقة لإرضائهن، تقدم إليهن أنواع النقش الموجود لديها في ألبوم الصور ليخترن، ومن ضمن هذه الأنواع : النقش الخليجي والنقش الهندي والنقش الصحراوي والنقش المراكشي، تقوم بكل عملية مقابل 5 دراهم .
امرأة توحي ملامح وجهها وهيئتها أنها دخلت في عقدها الخامس، تحكي قصتها مع هذه المهنة بتلقائية ممتزجة بعاطفة الأنوثة وطمع في فرج يخفف ظروفها ما جعلها تردد أكثر من مرة : "واش غاديرو لينا جمعية".
وبخصوص تقنين هذه المهنة تقول : جاء عون السلطة إلى هنا ذات يوم، فاقترح علينا أن نؤسس جمعية على أساس تنظيم العمل واستغلال المكان بكيفية جيدة لكل العاملات، رحبنا بالاقتراح حتى ولو كانت هناك ضريبة نؤديها، وقدمنا إليهم والوثائق المطلوبة في البلدية، إلا أنه لحد الآن لم نلق أي جواب.
روعة المكان وطبيعة هذه السيدة جعلت الحديث معها ذو شجون، الوقت يمر بأقصى سرعة كعادته في اللحظات السعيدة، كأن عقارب الزمان تحسدتنا على هذه اللحظات الجميلة، كانت الشمس تقترب من مغربها، شعاعها يضرب فقط في النصف العلوي للأشجار الطويلة، بدأت حركة الزوار تخف، غالبيتهم يتجهون نحو المخرج الرئيسي، أنهينا الحديث وودعت السيدة، فقالت : مرحبا بك متى عدت فهذا هو مقر عملي.