هناك، من جهة،طرف يريد وضع قواعد سير شؤون الدولة والحكم وفق تصور ممهور بطابعه الخاص ونظرته إلى الأشياء، انطلاقًا من كونه يتمتع بمكانة امتيازية مقارنة بالفاعلين الآخرين، وهذه هي النتيجة السياسية التي يجب أن تُستخلص –في نظره- عمليًا من فوزه الانتخابي. ينطلق هذا الطرف من أن الانضباط إلى أهداف الثورة يعني، اليوم، الانضباط إلى السلطة التي أفرزتها انتخابات ما بعد الثورة؛ والسير في طريق الثورة يفرض السير خلف هذه السلطة، لأنها تشخص روح الثورة وتتحدث باسمها.
طبعًا، لا يعترض هذا الطرف على مساهمة الأطراف الأخرى في رسم معالم الدولة ومؤسساتها وقواعد اللعب السياسي، ولكنه يعتبر، ربما، أن هذه المساهمة يجب أن تتم بقدر الحجم الانتخابي لكل طرف، وأن الديمقراطية لا تسمح بأن تكون للأقلية وللأغلبية ذات الحقوق وبأن تلعب كل منهما نفس الدور، وبالتالي فإن الأغلبية التي أفرزتها صناديق الاقتراع يجب أن تحظى أفكارها وآراؤها بالأسبقية وتشكل المرجع الأساسي الذي تستمد منه أسس وضع هندسة المؤسسات والعلاقات القائمة بينها وحقوق وواجبات المواطنين وهوية الوطن، وتمثل الملاذ والملجأ في حالة الخلاف؛ أما الذين لم ينالوا شرف تصدر النتائج الانتخابية فيجب أن يكون دورهم ثانويًا في وضع أسس الانتقال.
حسب هذا المنظور، فإن السلطة الجديدة التي قامت بعد سقوط رأس النظام ليست مسؤولة فقط عن الإشراف الشكلي على مسلسل الانتقال باعتبار هذا الأخير منتوجا جماعيًا وثمرة لتفاهمات وتراضٍ بين الأطراف الأساسية الفاعلة في الساحة السياسية، بل هي مسؤولة عن إنجاز الدور الأساسي في تحديد مضمون الانتقال، أي أنها وصية على هذا المضمون.
أمام هذا الطرف الذي يحاول فرض الأمر الواقع باسم صناديق الاقتراع، وهو الطرف الإسلامي، ينتصب طرف ثانٍ يريد أن تُوضع قواعد ومساطر الحياة السياسية والمؤسسية لما بعد الثورة بالشكل المتعارف عليه في تجارب الانتقال التي عرفها العالم. هذا الطرف الثاني يتمثل، على العموم، في "معسكر العلمانيين"، وهو يطالب بحق مختلف الفاعلين في الإدلاء بدلوهم والمساهمة في صياغة أفق الانتقال بغض الطرف عن الحجم الانتخابي، وبالتالي يجب أن يسعى الانتقال، ما أمكن، إلى استيعاب أكبر قدر من الآراء والحساسيات والقوى الموجودة داخل المجتمع. والقوى التي ظهر، اليوم، أنها مجرد أقلية، انتخابيًا، يجب أن تطمئن إلى أن القواعد المسنونة لن تحرمها من الظروف والفرص والإمكانات التي تسمح لها غدًا بأن تصبح أغلبية، ولن تمنح الأغلبية الحالية وسائل تأبيد موقعها الأغلبي بشكل متعسف وماس بأصول التنافس الشريف.
هناك قوى، يشهد لها الجميع بالمساهمة الفعالة في الثورة، ولكنها لم تتمكن –في ظل الظروف الانتخابية القائمة اليوم- من جني مكاسب انتخابية كبيرة، إذ ليس هناك تطابق بين خريطة النتائج الانتخابية للفاعلين وخريطة مساهمة أولئك الفاعلين في إنجاح الثورة.
وإن إصرار قوة معينة على التمتع بوضع امتيازي داخل مسلسل الانتقال الديمقراطي، وعلى تهميش القوى والحساسيات والأفكار الأخرى، يعكس نوعًا من النظرة الجامدة إلى الأشياء؛ فحرمان الأقلية، اليوم، من حقوقها في الوثيقة الدستورية مثلاً، قد ينعكس سلبًا على الأغلبية الحالية إذا تحولت غدًا إلى أقلية. وهذا، طبعًا، لا يدركه أولئك الذين يعتبرون أن الخرائط السياسية تظل ثابتة، فالأغلبية ستبقى، في نظرهم، دائمًا أغلبية وقَدَرُ الأقلية أن تظل أقلية. إن ضمان حقوق الأقليات، عمومًا، يمثل جزءًا لا يتجزأ من الديمقراطية.
في المنطقة المغاربية والعربية، يبدو إلى حد الساعة، أن التوافق التاريخي، سيكون أساسًا بين معسكر الإسلاميين ومعسكر العلمانيين. المعسكر الأول يضم الإسلاميين "المعتدلين" و"الوسطيين" وعددًا من الجماعات السلفية؛ والمعسكر الثاني يضم الليبراليين واليساريين والقوميين والأقليات الدينية والإثنية والثقافية واللغوية، فلا يظهر أن أطراف التوافق الأساسية ستخرج كثيرًا عن هذه الثنائية، ولا يظهر، ربما، وعلى الأقل من خلال عناصر الصورة التي أفرزها وضع ما بعد الثورات، أن حسم قضية الانتقال ستتطلب توافقًا بين يمين ويسار فقط، أو بين بقايا النظام السابق وقوى الثورة فقط، أو بين المدنيين والعسكريين فقط. قد تختلف الأوضاع من بلد إلى آخر، ولكن الثابت، ربما، أننا سنكون، في أغلب الأحيان، أمام حاجة إلى صياغة توافق بين الإسلاميين، من جهة، و"الآخرين"، من جهة ثانية.
والتوافق، في منطق الانتقال، ليس تحالفًا بين القوى المتوافقة، وليس إنهاء للصراع السياسي بينها، بل هو اتفاق على قواعد الصراع؛ فالمساطر، عمومًا، لا يمكن أن يوُكل أمر وضعها إلى طرف واحد مخافة أن يشتط ويتعسف ويعمد إلى وضع القواعد التي تخدم مصلحته، ويضطر خصومه، بعد ذلك، إلى القيام بثورة جديدة لفرض قواعد أعدل، فتتوالى الثورات، وكل ثورة تضع دستورًا جديدًا مخالفًا في مضمونه ومشتملاته للدستور الذي سبقه، والحال أن الانتقال الديمقراطي يكفل التداول على السلطة من داخل نفس الدستور. ولذلك يتعين التوافق على نص الدستور، وهذا التوافق لا يلغي الاستفتاء الشعبي، إذ يُحال الدستور، الذي كان موضوع التوافق، على الاستفتاء. ويتعين أن يشمل التوافق أيضًا مجموعة من القوانين التنظيمية المهيكلة التي تهم مجال الحريات وتنظيم الأحزاب والانتخابات، ويمكن أن ترد، بالوثيقة الدستورية نفسها، الخطوط العريضة للقواعد المتوافق عليها والتي يفترض أن تنص عليها القوانين المشار إليها.
وحسب المؤشرات المتوفرة حالياً، فإن أيًّا من الطرفين، الإسلامي أو العلماني، لا يمكنه أن يستغني عن الطرف الآخر أو يتجاوزه أو يفرض عليه تصوره الخاص، فلا بد من تنازلات متبادلة. لكن، لا يمكن، باسم ضرورة التنازل، أن يتم التنازل عن الديمقراطية أو عن جزء منها، فالديمقراطية غير قابلة للتجزئة، وإذا لم تصل الأطراف من خلال توافقاتها إلى تبني القواعد التي يقوم عليها الاختيار الديمقراطي، فلا يمكن القول إن البلد، الذي تنتمي إليه الأطراف المتوافقة، أنجز انتقاله الديمقراطي.
ومن أجل إنجاز التوافق، الذي سيمثل جزءًا من متطلبات الانتقال الديمقراطي، سيكون على الإسلاميين –في نظرنا- حسم موقفهم من الديمقراطية بتبنيها جملة وتفصيلاً، وهذا يقتضي :
هجر فكرة تبني الديمقراطية كآليات ورفضها كفلسفة، إذ لا قيمة للآليات بدون تمثل مركزية العقل والإنسان؛
هجر شعار "تبني الديمقراطية بما لا يتعارض مع الإسلام"، لأن هذا الشعار يفترض الانطلاق مسبقًا من أن الديمقراطية، في جوانب منها، تتعارض مع الإسلام؛
هجر فكرة الحديث العام عن "الخصوصية" الديمقراطية في بلداننا؛ إذ إن الخصوصية لا يمكن أن تشمل القواعد المتمثلة في السيادة الشعبية وفصل السلطات والتمثيل النيابي الدوري بالانتخاب وحق التداول والتعدد والحريات والحقوق المنصوص عليها، أساسًا، في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ فمن داخل الديمقراطية وقواعدها برزت الجوانب المتروكة لاجتهادات وإبداعات وثقافات الشعوب المختلفة (شكل الدولة – نمط الاقتراع - مجلس واحد أو مجلسان..)؛
هجر فكرة اختزال الديمقراطية في السيادة الشعبية واعتبار هذه السيادة أساسًا شرعيا للانتقاص من الحقوق والحريات أو للإخلال بفصل السلطات أو بالقواعد الأخرى.
وسيكون على العلمانيين، في نظرنا :
أن يتفهموا نزوع فئات واسعة من شعوبنا إلى إبراز ما يثبت تشبتها بهويتها الخاصة؛
تفهم تطلع نخب همَّشها الاستبداد، إلى لعب أدوار جديدة وممارسة السلطة السياسية والاقتصادية؛
الاعتراف بما تمثله الحركات الإسلامية من تعبير عن شعور فئات اجتماعية واسعة بالحرمان والقهر والتهميش الاقتصادي؛
احترام الوزن الانتخابي للحركات الإسلامية ونجاحها في إرساء بنيات تنظيمية حية وآخذة بالتحديث التقني ومتوفرة على مناضلين ذوي حوافز.