"هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد"، هذه هي العبارة التي أوصى الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري بكتابتها على شاهد قبره، وهي العبارة التي يفتتح بها قصيدة تشاؤمية طويلة تعبر عن حظه من الحياة وعن مأساة الإنسان، وتلخص نظرته التشاؤمية السوداوية.
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري المولود سنة 973 ميلادية بمدينة معرة النعمان التي توجد حاليا في شمال سوريا، ومنها استمد اسمه، ومنه استمدت بالمقابل شهرتها، وتوفي سنة 1057 ميلادية.
أصيب وهو في الرابعة من عمره بداء الجدري الذي ذهب ببصره، حيث جاء في كتاب "أبو العلاء المعري" لعيسى إبراهيم السعدي: "عندما بلغ أبو العلاء الرابعة من عمره أصيب بمرض من أشد الأمراض ضراوة، إنه داء الجذري فأخد يعاني منه الألم والمرارة والقسوة، حتى ذهب إحدى عينيه، وأصاب البياض عينه الأخرى، حتى فقد ما فيها من قوة لإبصار".
لطن رغم ذلك فقد كان محظوظا بنشأته في عائلة تحب الأدب وتنبغ في الشعر، وهي عائلة معروفة بعائلة بني سليمان، حيث كان جده أول قاض في المدينة. وهو ما أتاح له رغم معاناته من فقدان البصر أن يدرس علوم اللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه.
درس في حلب وأنطاكية علوم اللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه والشعر، ويشير عيسى إبراهيم السعدي في كتابه إلى أن المعري كان "على جانب كبير من الفطنة والذكاء، وملكة فائقة على الحفظ، ما مكنه من تحصيل العلم والمعرفة فتراه قد تفوق وأبدع في نوعي الأدب : شعره ونتره".
وفي سنة 1007 توجه إلى بغداد وزار دور كتبها وقابل علماءها، ويصفه الكاتب ياقوت الحموي في كتابه "إرشاد الأريب إلى معرفة الاديب" بقوله "كان غزير الفضل، شائع الذكر، وافر العلم، غاية في الفهم، عالما باللغة، حاذقا بالنحو، جيد الشعر، جزل الكلام، شهرته تغني عن صفته، وفضله ينطق بسجيته".
وبعد سنتين عاد إلى مسقط رأسه معرة النعمان، وشرع في التأليف والتصنيف. يقول في حقه الكاتب المصري المعروف طه حسين في تقديمه لكتاب تعريف القدماء بأبي العلاء لمحمد سعيد ربيع الغامدي: "وبهذا كله كان أبو العلاء فذا بين أدباء العرب وشعرائهم، وكتابهم لم يجتمع لأحد من الذين سبقوه أو جاءوا بعده مثل ما اجتمع لديه من إتقان العلم وسعة المعرفة وعمقها إلى أقصى غايات السعة والعمق".
وبعد عودته من بغداد التي كانت تعتبر من أهم الحواضر الثقافية في العالم، قرر اعتزال الناس، وزهد في الدنيا وأعرض عن لذاتها
وعلى عكس أغلب الشعراء الآخرين، كان يحتقر المال والشهرة ولا يسعى إليهما، ووصل به الأمر إلى أن قرر اعتزل الناس بعد عودته من بغداد حتى وفاته، وأصبح نباتيا لا يأكل لحوم الحيوانات، ولا ما تنتجه من سمن ولبن، أو بيض وعسل، ولا يلبس من الثياب النعامة، وأطلق على نفسه لقب "رهين المحبسين" أي محبس العمى ومحبس البيت.
ويشير ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار إلى أن المعري "رفض الدنيا وما سلم، وفرض غاياتها فعمل بما علم، وتداوى باليأس من مطامعها ودارى الناس بترك حظه لهم، ومع هذا ظلم. نفض يديه من الدنيا وساكنها، وخفض لديه قدر محاسنها، وانقطع في بيت كان له بالمعرة لا يخرج منه إلا إلى مسجده".
فيما يؤكد بسط ابن الجوزي في كتابه "مرآة الزمان" أن المعري "وأقام خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض ولا اللبن، ويحترم إيلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويلبس خشن الثياب".
وقال عنه ابن حجر في كتابه لسان الميزان "كان قانعا باليسير. كان له وقف يحصل منه في العام ثلاثين دينار، قرر منها لمن يخدمه النصف. وكان غذاؤه العدس، وحلاوته التين، ولباسه القطن، وفراشه لبادا. وكان لا يمدح أحدا. ولو تكسب بالمدح والشعر لنال دنيا ورياسة".
وأعرض المعري عن الزواج واعتبر إنجاب الأطفال جناية، وتعكس معظم أعماله الأدبية ما بنفسه من سوداوية وتشاؤم، وله دواوين مشهورة، منها لزوم ما يلزم، وله كتب نثرية كثيرة منها رسالة الغفران.
وكان المعري على عداوة مع الفقهاء بسبب نزعة الشك عنده بشأن بعض الحقائق الكبرى المتعلقة بالإسلام، كما أنه كان يرى أنه ليس هناك دين أفضل من دين آخر، وأن كل دين له سماته الخاصة.
ورغم وفاته استمر بعض الفقهاء في الهجوم عليه والتشكيك في دينه، وقال في حقه أبو الفرج بن الجوزي "تلبيس إبليس": "وأما أبو العلاء فأشعاره ظاهرة على الإلحاد وكان يبالغ في عداوة الأنبياء"، وأضاف "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الرواندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان". فيما يقول عنه ابن كثير في موسوعته البداية والنهاية في الجزء الثانى عشر "أبو العلاء المعرى التنوخى الشاعر، المشهور بالزندقة، اللغوى، صاحب الدواوين والمصنفات فى الشعر واللغة".
لكن كتابا آخرون نفوا ذلك، ومنهم نرجس توحيدي فر، الذي أشار في كتابه "أبو العلاء دراسة في معتقداته الدينية" إلى أنه "يعتقد أبو العلاء في الله تعالى. ما يعتقده المؤمنون المخلفون من المسلمين، ويثبت له من صفات الكمال ما يثبتون له، وينفي عنه من صفات الحدوث والنقص ما ينفون. وإذا استقريت أقواله في هذا الغرض لا ترى فرقاً بينه وبين أعظم المسلمين في الاعتقاد".
وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه شوقي ضيف في كتابه "فصول في الشعر ونقده"، حيث يقول "وواضح أنه لا يهاجم الديانات نفسها وإنما يهاجم أصحابها، وفَرْق بين أن يهاجم الإسلام والمسيحية واليهودية، وبين أن يهاجم المسلمين والنصارى واليهود وأن يثبت عليهم في عصره نقص عقولهم، فقد اختلف أصحاب كل دين، وتوزعوا فرقًا كبيرة".