ففي مساء يوم الثلاثاء 25 يناير من العام 1983، فوجئ مشاهدو التلفزة المغربية ببيان في النشرة المسائية ينعي وفاة أحمد الدليمي بسبب حادث سير على الطريق الرابطة بين مراكش والرباط. وحسب نفس البيان، فالحادث كان عبارة عن اصطدام بين سيارة الدليمي وشاحنة؛ إلا أن ما لم يذكره البيان هو أن الشاحنة كانت مسروقة وأن سائقها لاذ بالفرار مباشرة بعد وقوع الحادث ولم يتم التعرف على هويته حتى يومنا هذا، ليتم تسجيل الحادث ضد المجهول.. هكذا إذن كانت الرواية الرسمية بخصوص وفاة اليد اليمنى للحسن الثاني؛ إلا أن القليل من التمعن في المعطيات الرسمية سرعان ما جعل الكثيرين يشككون في فرضية حادثة السير ويتحدثون سرا وبالكثير من الحيطة والحذر عن عملية اغتيال مدبرة أدت إلى وفاة أقوى رجل في مغرب السبعينات وبداية الثمانينات؛ لتكون أولى الأصوات المشككة قادمة من فرسنا، عندما نشرت صحيفة "لوموند" على صفحتها الأولى مقالا يشكك في الرواية التي قدمتها الدولة حول وفاة الدليمي .
أيقونة اسمها الدليمي
يعرف المغاربة الكثير عن محمد أوفقير الذي ارتبط اسمه بمحاولة إسقاط طائرة الحسن الثاني وعن إدريس البصري الذي قضى أكثر من 25 سنة وزيرا للداخلية؛ لكنهم يعرفون القليل عن ذاك الذي "حكم" بين فترة ما بعد وفاة أوفقير وبداية سطوع نجم البصري.. إنه أحمد الدليمي، الذي أصبح الرجل الثاني في النظام من 1972 إلى 1983؛ المشهور بمزاجه العنيف وبدمويته وحبه السهر حتى الصباح؛ الرجل الذي وصلت به الجرأة إلى درجة تحدي الملك الحسن الثاني في العديد من المواقف كما تحدث عن ذلك عدد من المقربين من "السي أحمد" .
ولد أحمد الدليمي سنة 1931 بمدينة سيدي قاسم داخل عائلة متواضعة؛ وهو ينحدر من قبيلة "أولاد دليم" التي تعود جذورها إلى الصحراء. بعد الدراسة في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، بدأ مشواره العسكري وهو بالكاد يبلغ من العمر عشرين سنة، ليصبح سنة 1953 "ماجور" مجموعته في الأكاديمية العسكرية بمكناس.
بدايات الجنرال كانت مليئة بالمواقف المثيرة، ففي سنة 1958، وبعدما عاد الشاب أحمد الدليمي من تدريب عسكري بفرنسا، أخذ يبحث عن مساهرة مع أسرة نافذة حتى يتمكن من التدرج في الرتب العسكرية بسرعة؛ فلم يجد في تلك الفترة أفضل من ابنة وزير الداخلية آنذاك مسعود الشيكر، الذي كانت تربطه بالملك الراحل محمد الخامس علاقات قوية..
سيتقدم الدليمي لخطبة ابنة الشيكر بمباركة من محمد الخامس، بل إن هذا الأخير سيحضر حفل الزفاف شخصيا؛ إلا أن المفاجأة ستحدث غداة ليلة العرس حين أعلن الدليمي طلاقه من زوجته! ما الذي حدث إذن؟
لم يتردد الدليمي في التوجه عند أب العروس، ليقول له بأن ابنته "ليست بكرا" والتالي فإن هذا الزواج لا يمكنه أن يستمر، وهو الشيء الذي أغضب كثيرا محمد الخامس وقرر معاقبته بإرساله إلى ثكنة عسكرية بكلميم. إلا أن الدليمي لم يتأخر كثيرا، ليتزوج بعد ذلك من زهرة بوسلهام اخت زوجة الجنرال عبد السلام الصفريوي، التي قيل بأنه تزوجها بتوصية من "استاذه" الجنرال أوفقير..
في سنة 1959، سيبرز الدليمي بعد مشاركته، إلى جانب ولي العهد مولاي الحسن وأوفقير، في قمع انتفاضة الريف والقضاء على جيش التحرير بالجنوب، ليقوم أوفقير؛ الذي كان آنذاك مديرا للأمن الوطني، بضمه إلى دائرته الضيقة وجعله نائبا ومساعدا له، وبالتالي إعداده لتقلد مسؤوليات مهمة في المستقبل.
"لقد كان الدليمي مدينا لأوفقير بكل شيء، لكنه لم يكن مرتاحا في دوره كتابع" تقول فاطمة أوفقير قي كتاب مذكراتها "حدائق الملك"، إلا أن يوم 16 غشت 1972 الذي قاد فيه أوفقير محاولته الانقلابية الفاشلة وانتهى بمقتل هذا الأخير في قصر الصخيرات، كان هو اليوم الذي صطع فيه نجم أحمد الدليمي وعرف تحولا جذريا في مساره؛ خصوصا وأنه كان برفقة الحسن الثاني في الطائرة عندما تعرضت للهجوم، وبالتالي فإنه قد أصبح بعد فشل الإنقلاب الثاني ضمن الدائرة الضيقة للمقربين من الحسن الثاني الذين لا يفارقونه..
لكن قبل ذلك، في سنة 1965، صنع الدليمي الحدث الأبرز في مملكة الحسن الثاني، وذلك على خلفية اغتيال زعيم المعارضة آنذاك المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر بالعاصمة الفرنسية باريس؛ فعقب انفجار القضية، وجهت أصابع الاتهام إلى كل من محمد أوفقير الذي كان مديرا عاما للأمن الوطني ولنائبه الكولونيل الدليمي، وأصدرت السلطات الفرنسية الأمر باعتقالهما باعتبارهما "قاتلي" بن بركة.
ففي الوقت الذي رفض أوفقير المثول أمام العدالة الفرنسية، كان للدليمي رأي آخر وقرر تسليم نفسه، ليدخل إلى قاعة المحكمة بباريس وقد غير الكثير من ملامحه ووضع ماكياجا حتى يصعب التعرف عليه، ليفاجئ جميع الحاضرين عندما ذكر القاضي اسمه برفع أصبعه لطلب الكملة أثناء الجلسة قائلا : هل تأذن لي سيدي بالحديث؟ فقال القاضي: من أنت وماذا تريد؟ ليجيب أحمد الدليمي وتهتز القاعة : "أنا هو الدليمي الذي تبحثون عنه" ! ليتم بعد ذلك إلقاء القبض عليه من داخل المحكمة.
لقد كان الرجل مصرا على تبرئة ذمته من دم بن بركة؛ لذلك قرر تسليم نفسه للقضاء الفرنسي بعدما ترك رسالة للحسن الثاني من أبرز ما جاء فيها: "لا يمكن سيدي أن يوسخوا سمعة ملكي ووطني والقبيلة التي أنتمي إليها، أنا بريء لذلك سأسلم نفسي للعدالة الفرنسية.."
بالنسبة للملك الراحل، فإن موقف الدليمي كان "بطوليا" ينم عن شجاعة غير مسبوقة، لذلك قرر ترقيته، وهو في السجن، إلى رتبة جينرال.
سنة بعد ذلك، بعدما صدر حكم بالبراءة في حقه، ولحظة وصوله إلى مطار الرباط؛ خصص للجينرال استقبال كبير حضر فيه الجيش والعائلة وعدد من المقربين من الحسن الثاني، لتبدأ مرحلة جديدة من حياة الدليمي جعلته أكثر قربا من الملك..
ملك "غير متوج"
حظوة الدليمي ستزداد إذن بعد مقتل أوفقير الذي حاول قلب النظام صيف 1972، وسيصبح الرجل الأكثر قوة في المملكة. وكأول خطوة لبسط سيطرته على البلاد، أسس سنة 1973 مديرية الوثائق والمستندات "لادجيد" ، ليتمكن بعد ذلك من التحكم في كل المعلومات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تهم المغرب.
لكن نفوذ الدليمي وقوته سيقودانه إلى تحدي الحسن الثاني مرات عديدة، في الوقت الذي كان الجميع يخشى غضب الملك الراحل..
وفي هذا الصدد، حكى المحجوب الطوبجي، وهو أحد معاوني الدليمي وأقرب المقربين إليه، ومؤلف كتاب "ضباط صاحب الجلالة" الصادر سنة 2006 والممنوع في المغرب؛ عن إحدى اللحظات التي تجرأ فيها الدليمي وتحدى الحسن الثاني في سابقة هي الأولى من نوعها لم يسبق لأحد أن قام بها. ففي إحدى الليالي التي سبقت وفاته والتي كان يقيم فيها سهرة بحضور "الشيخات" ، رفض الجينرال مقابلة الملك بالرغم من محاولة كاتبة الحسن الثاني وزوجة الطوبجي إقناعه بالعدول عن رأيه. ففي ذلك الوقت، يحكي الطوبجي؛ لم تكن هناك هواتف نقالة، ولكي يتسنى له الحديث مع الملك كان يلزم الدليمي الخروج من المكان الذي كان فيه وأن يمشي حوالي 50 مترا؛ لكنه لم يفعل ذلك واختار الاستمتاع بمشاهدة الشيخات ومتابعة السهرة وكأن شيئا لم يحدث. "أظن أن الحسن الثاني اتخذ قراره الحاسم في تلك الليلة.. لقد تجاوز الدليمي الحدود وكان فخورا بنفسه..لم يكن الدليمي يعرف كيف يقي نفسه مما يحدق به مم مخاطر" يقول الطوبحي الذي اختار الاستقرار بشكل نهائي في الديار الفرنسية سنة 2004.
كما يحكي المناضل الاتحادي محمد أيت قدور الذي عاش لسنوات في المنفى الباريسي، أنه في إحدى الأيام مطعع الثمانينات، في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية؛ نقل جينرال فرنسي متقاعد كان للتو قد عاد من من مهمة مراقبة في الصحراء، تصريحات ثقيلة قالها له الدليمي، كان من أبرز ما جاء فيها : "كيف يمكننا أن ننتصر في حرب الصحراء في الوقت الذي ينام فيه قائد القوات المسلحة حتى الظهرية !" هذه الجملة، التي تتحدث بشكل مباشر عن الحسن الثاني؛ تنضاف إلى عدد من التصرفات التي كان يقوم بها الدليمي مع الملك الراحل والتي كانت تظهر الجنرال ك "متمرد" يتصرف بما يتلوه عليه مزاجه مع ملك اسمه الحسن الثاني !
أمير الصحراء
لقد كان الدليمي هو صاحص فكرة بناء الجدار الرملي الذي شيد في الحدود الشرقية للمملكة على مسافة تمتد إلى أكثر من 500 كلم سنة 1980؛ بل إنه كان هو مهندس الحرب ضد جبهة البوليساريو ويحسب له أنه كان وراء عدد من الانتصارات التي حققها الجيش في بعض المعارك ضد الانفصاليين، بل إنه كان يقود بنفسه الكتائب العسكرية لمطاردة مقاتلي البوليساريو في الصحراء.
لقد كان يرفض، بصفته قائدا للمنطقة الجنوبية، أن يمارس مهامه العسكرية من مكتبه بالقيادة العامة للقوات المسلحة بالرباط وأن يبقى في انتظار تعليمات "قائده" الحسن الثاني؛ لذلك قرر أن يغادر العاصمة في اتجاه الصحراء للسهر على سير الأمور، بعدما ترك إدريس البصري للتكلف بالمسائل الداخلية التي تهم الساحة السياسية؛ الذي وإن كان وزيرا للداخلية آنذاك، فإنه لم يكن بمقدوره التحرك دون أخذ الإذن من أحمد الدليمي الذي كان يفرض رأيه في جل القرارات الكبيرة التي تهم المملكة.
وفاة الدليمي : اغتيال أم حادث سير؟
منذ وفاة أحمد الدليمي في 25 يناير 1983 بمراكش والتشكيك في الرواية الرسمية يطغى على الموضوع، فعلى الرغم من أن جنازة وطنية كبيرة خصصت للجنرال يوم 26 يناير بمدينة الرباط، حضرها كبار رجالات الدولة والجيش وأعضاء الحكومة والبرلمان والشخصيات السامية، تقدمهم شقيق الحسن الثاني الأمير مولاي عبد الله (الذي توفي في شهر ديسمبر من نفس السنة بعد معاناة مع المرض) والملك محمد السادس الذي كان واليا للعهد آنذاك؛ وحرص الحسن الثاني على الحضور شخصيا إلى فيلا الجنرال بحي الاميرات في العاصمة لتقديم واجب العزاء لأرملة الراحل وعائلته؛ فإن فرضية تعرض أحمد الدليمي لعملية تصفية تبقى أمرا محتملا، خصوصا وأن جريدة "لوموند" تحدثت عن ذلك بصراحة في عددها الصادر يوم 2 فبراير 1983 عبر مقال صدر على الصفحة الرئيسية تحت عنوان: "وفاة الجنرال الدليمي: تشكيك الأوساط المغربية في الرواية الرسمية للحادث" ، من أبرز ما جاء في مضامينه أن "بعض الشهود سمعوا انفجارا أول، فهرعوا إلى عين المكان ورأوا سيارة محروقة بينما كان يسمع دوي انفجارات أخرى، كما رأوا في نفس الوقت شاحنة تفر هاربة.."
هذه المعلومات أكدها هشام الدليمي، ابن أخ الجنرال الذي يتشبث بفرضية تعرض عمه لعملية اغتيال وأنه فعلا قفز من السيارة وخرج وفي يده رشاش لم يكن يفارقه، إلا أنه وبعد نفاذ ذخيرته تم إمطار جسده بالرصاص، لأن من صنعوا له ذلك الكمين كانوا ينتظرون فقط نززله من السيارة ليهموا بإطلاق النار عليه بطريقة جنونية.
هشام الدليمي الذي حط الرحال بفرنسا بعد وفاة الجنرال بثلاث سنوات، يؤكد أن عمه كان ضحية عملية تصفية خطط لها الثلاثي محمد المديوري الذي كان مكلفا بالأمن الملكي والحارس الشخصي للحسن الثاني؛ مولاي حفيظ العلوي وزير التشريفات والأوسمة وإدريس البصري وزير الداخلية، بل إن هشام تحدث عن تواجد الحاج المديروي في مكان الحادث وأنه كان مختبئا يتابع عملية تصفية الجنرال؛ وأن العملية جرى تصويرها منذ بدايتها !
"إنها مؤامرة..الجنرال الدليمي صار مستهدفا لأنه كان يملك السلطة الحقيقية. لقد كان الحسن الثاني والدليمي ملتحمين كخيوط الكهرباء، فالجنرال كان الوحيد الذي يستطيع الإحتفاظ بسلاحه عندما كان يلتقي بالملك، وقد كان يناهضه كل الذين كان يقضم سلطتهم، لأن الدليمي كان يتحكم في كل شيء، في التعيينات كما في أصغر التراخيص.. للحصول على جواب بنعم أو لا كان لا بد من المرور عبر الدليمي.. عملية الاغتيال صنعها الثلاثي إدريس البصري ومولاي حفيظ العلوي وأحمد رضا اكديرة مستشار الملك؛ لكن محمد المديوري، المسؤول عن أمن الحسن الثاني، هو من كان وراء كل شيء." الكلام هنا لابن أخ الجنرال في حواره مع مجلة Actuel المغربية مطلع سنة 2011، كما أن هذا الأخير دأب على نشر فيديوهات مصورة على قناته الخاصة بيوتوب، يتحدث خلالها عن حياة الجنرال وعن تفاصيل عملية اغتياله.
هكذا إذن وبعد أن تم دفن الجنرال في مقبرة الشهداء قبل 35 سنة بالعاصمة الرباط دون أن تتمكن عائلته من إلقاء "نظرة الوداع" على جثمانه الذي وضع في صندوق مغلق؛ فإن وفاته تنضاف هي الأخرى إلى قائمة "أسرار الدولة" ، إلى جانب لغز وفاة كل من رمز المعارضة المهدي بن بركة، والجينرال محمد أوفقير، وهشام المنظري..
كرونولوجيا حياة الجنرال أحمد الدليمي :
1931 : ولادته في سيدي قاسم، بمنطقة "زكوطا"
1951 : التحاقه بالأكاديمية العسكرية بمكناس
1953 : ترقيته كضابط في الجيش الفرنسي
1957 : التحاقه بالقوات المسلحة الملكية التي أنشأها الحسن الثاني وهو ولي للعهد آنذاك
1958 : بروزه بعد قمع "انتفاضة" الريف
1961 : مسؤول عن "الكاب1" (الديستي ولادجيد سابقا)
1965 : تورطه في اغتيال المهدي بن بركة
1966 : مثوله أمام القضاء الفرنسي وتبرأته بعد سنة قضاها في السجن بفرنسا
1970 : تعيينه مديرا عاما للأمن الوطني
1972 : أصبح الرجل القوي في النظام بعد "انتحار" الجنرال محمد أوفقير
1973 : أسس أجهزة الاستخبارات المغربية (ديستي ولادجيد)
1975 : شارك في المفاوضات التي سبقت المسيرة الخضراء
1979 : أصبح قائدا للمنطقة الجنوبية
1981 : أطلق أشغال بناء الحائط الرملي بالصحراء
1983 : وفاته عن سن 51 سنة