مع بداية سنوات الأربعينات من القرن الماضي، استغلت الحركة الوطنية في المغرب التغيرات الدولية الحاصلة في العالم، وخصوصا تراجع القوات الفرنسية أمام الجيوش النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ومؤتمر أنفا سنة 1943 بين محمد الخامس وروزفلت وتشرشيل، وانتقلت من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة صراحة بجلاء المستعمر والاستقلال.
قبل تأسيس الهلال الأسود
وفي 11 يناير من سنة 1944 قدم قادة الحركة الوطنية "وثيقة المطالبة بالاستقلال" إلى الإقامة العامة. هذه المستجدات دفعت السلطان محمد الخامس بدوره إلى المطالبة بوضع حد لنظام الحماية خصوصا خلال رحلته إلى فرنسا سنة 1945، وخلال زيارته إلى مدينة طنجة سنة 1947، حيث أكد في خطابه على وحدة المغرب الترابية تحت سلطة ملكه الشرعي، مشيرا إلى أن مستقبل المغرب مرتبط بالإسلام والجامعة العربية التي تأسست في 1945. وفي سنة 1950 قدم السلطان مذكرة لفرنسا تهدف إلى تجاوز مشكلة الإصلاحات لتحقيق الاستقلال.
وعندما بدأت السلطة الاستعمارية تحس بتهديد تواجدها بالبلاد عملت بمساعدة القواد الكبار وخصوصا الكلاوي على عزل السلطان محمد بن يوسف وتعيين محمد بن عرفة مكانه. وفي 20 غشت 1953 تم نفي محمد الخامس وأسرته إلى جزيرة كورسيكا ثم إلى جزيرة مدغشقر.
بعد ذلك اشتدت العمليات الفدائية التي كانت تقوم بها المقاومة، لكن رغم ذلك لم تستطع هذه العمليات التي كانت في الغالب فردية وغير منظمة التأثير على سلطات الحماية والمتعاونين معها.
ولجأت الحركة الوطنية بعد ذلك إلى التفكير في خلق تنظيمات سرية تتولى الكفاح المسلح ضد المستعمر ورموزه، فكان ظهور منظمة "اليد السوداء" وهي المنظمة التي كانت تعرف أيضا باسم "مجموعة سينيما ريو".
لكن المنظمة التي نفذت عدة عمليات ضد المستعمر الفرنسي وقعت بعد ذلك في أخطاء فادحة، حسب ما يروي المجلد السابع من سلسلة "مذكرات من التراث المغربي"، اذ انفتحت على الكثير من الملتحقين دون احتياط، كما أنها لم تحترم أحد المبادئ الأولية للعمل السري وهو فصل الإطارات، وهو ما أدى إلى سقوط معظم أعضائها في أيدي الفرنسيين.
تأسيس الهلال الأسود
وبعدما وضعت الاعتقالات نقطة النهاية في تاريخ منظمة "اليد السوداء"، قرر ما تبقى من رجال الحركة الوطنية الذين كانوا ينفذون عملياتهم تحت اسم "اليد السوداء"، أن يؤسسوا منظمة جديدة أطلقوا عليها اسم "الهلال الأسود".
وتنقل موسوعة مذكرات من التراث المغربي عن المهدي بوردينة، وهو أحد مؤسسي "الهلال الأسود" قوله "بعد تفكيك شبكة "اليد السوداء" قرر لحسن الكلاوي الشروع في صنع قنابل حرفية بالذهن الصناعي، وبمسحوق كنا نجلبه من محجر تيط مليل، وستتطور هذه القنابل حتى تصبح فيما بعد مزودة بجهاز للتوقيت".
وتابع "وبموازاة عمله معنا، كانت له علاقات مع مجموعات بالدرب الكبير، ودرب الطلبة، ودرب بوشنتوف، بل وحتى في المدينة القديمة. وترجع أولى أسلحتنا النارية القابلة للاستعمال إلى سنة 54 وكذا منشورنا الأول الذي كان عنوانه "من اليد السوداء إلى الهلال الأسود". إن عبد الله الحداوي الذي لم يكن يتعدى سنه 16 سنة، هو الذي اقترح علينا هذا الاسم لأنه كان من قراء المجلة المصرية "الهلال"...وقد طرد من المدرسة لأنه كان يغطي جدرانها بالشعارات".
هذا المنشور أثار اهتمام رجال المنظمة السرية التي كانت تقاوم أيضا الوجود الفرنسي في المغرب، ويضيف المهدي بوردينة أنهم "شرعوا في البحث عنا، وقد أجريت التحريات بالأساس من طرف بوشعيب الحريري، والمدني وولد علي المكناسي، وبعدما تم الاتصال بيننا، قال لي بوشعيب الحريري، بأنه بعد إجراء التحقيق توصل إلى خلاصة، أننا ننتمي في الواقع لنفس الشبكة، وأن مجموعتنا وجدت نفسها منعزلة بعدما فقد الاتصال معها، وأضاف بأننا كنا بالنظر لفحوى المنشور جزءا من المنظمة السرية...".
وأبدى لحسن الكلاوي مؤسس منظمة "الهلال الأسود" بعض التحفظات حول توطيد العلاقات التنظيمية مع المنظمة السرية، وطرح مناقشتها مع أطر مسؤولة من مستوى أعلى، لكن أعضاء التنظيم الجديد قرروا الحفاظ على علاقاتهم مع رجال المنظمة السرية.
ويقول بوردينة "فقررت أنا وعبد الله الحداوي، من دون علمه، الحفاظ على العلاقة مع بوشعيب الحريري الذي وعدنا بتمكيننا من عنصرين أساسيين في عملنا لم يكن يتوفر عليهما إلا المنظمة السرية: أٌقراص السم، وقنوات تهريب المقاومين إلى المنطقة الشمالية. ومن تم كانت كل العمليات تتم بالتنسيق مع رجال المنظمة السرية، وبالأخص العمليات التي نفذت ضد بعض العملاء الكبار بفاس".
عمليات الهلال الأسود
في 23 دجنبر 1954، حمل أحد أعضاء المنظمة على متن دراجته قنبلة صنعت بواسطة قنينة للغاز مزودة بجهاز للتوقيت، وكان يقصد مقهى لا شوب، إلا أنه تخلى عنها عند ساعة مرسيليا، قرب محطة الحافلات بالبيضاء، فخلف الانفجار عددا كبيرا من الضحايا.
فقرر لحسن الكلاوي الذي تملكه الغضب بحسب موسوعة مذكرات من التراث المغربي تحضير "عملية للتدارك ضد مقرات جريدة "لافيجي" ولسوء الحظ انقلب هنا الأمر أيضا إلى كارثة: إذ لفظ رفاقنا المكلفون بإعداد العبوة المتفجرة أنفاسهم بسبب خطأ في الاستعمال على ما يبدو، فأدى الانفجار إلى أضرام النار في العمارة التي كانوا بها (الدرب الكبير)...وأمام انفعال كل الرفاق قرر لحسن توزيع بيان يحمل توقيع "الهلال" لتكريم أرواح الشهداء والضحايا الأبرياء، ولتجديد التأكيد على إضرار المجموعة على الاستمرار في الكفاح".
واستمر تنفيذ العمليات ضد المستعمر الفرنسي، بالتنسيق مع رجال المنظمة السرية، وأثناء الاستعداد لتنفيذ عملية ضد مهندس معماري فرنسي يدعى "أولتر ماري" قبضت سلطات الحماية على المقاومين المغاربة وكان من بينهم المهدي بوردينة، وحدد يوم 21 أبريل 1955 تاريخا لمحاكمتهم.
وبحسب ما يحكي بوردينة فقد ضبط رجال الأمن الفرنسيون بحوزة المعتقلين رسالة هربت أثناء إحدى الزيارات "تخبرنا أن الاتصالات قد استؤنفت مع رجال المنظمة السرية. وبقينا تحت التعذيب قرابة عشرة أيام".
وأمام اعتقال قياديين في المنظمة، بدأ عبد الله الحداوي "يستقطب بلا حساب وبدون حذر باسم الهلال الأسود".
وفي سنة 1956، صدر منشور باسم القيادة العسكرية العامة للهلال الأسود يعلن عن هجمات على ثكنات بالدار البيضاء وغيرها...فأصبح الجو مشحونا وغير قابل للضبط، وأصبح الهلال موضوعا للعديد من الاتهامات، من الشيوعية إلى العمليات التي تنفذها مجموعات فرنسية باسم عبد الله الحداوي...
حزب الاستقلال والتصفيات الجسدية
وقبيل الاستقلال أعلنت المنظمة رفضها لمفاوضات إيكس ليبان، وأصرت بالمقابل على مواصلة الكفاح المسلح، وهو ما أدخلها في خلافات عميقة مع بعض قياديي الحركة الوطنية وخاصة المنتمين إلى حزب الاستقلال.
ولجأ حزب الاستقلال بحسب ما يحكي محمد وحيد في كتابه "الهلال الأسود (1953-1956) التأسيس والاستئصال: محاولة لإثراء تاريخ المقاومة الوطنية المغربية"، إلى التصفيات الجسدية ضد قادة المنظمة.
ويحكي المهدي بوردينة بحسب ما نقلته موسوعة مذكرات من التراث المغربي أن "الأمور كانت قد تطورت بشكل مهول، ولم يعد أحد قادر على إيقاف المسلسل...وفشلت الوساطات والمفاوضات على نحو مؤسف...وجرف سيل العنف معه عشرات المقاومين، ومن بينهم لحسن الكلاوي وعبد الله الحداوي...".