أنهت بريطانيا انتدابها لفلسطين في 14 ماي من سنة 1948، وفي اليوم ذاته أعلن ديفد بن غوريون قيام الدولة الإسرائيلية وعودة الشعب اليهودي إلى ما أسماه أرضه التاريخية. وفي ذلك الوقت أولى صناع القرار الإسرائيلي اهتماما كبيرا بتأسيس علاقات قوية وراسخة مع القوى الكبرى الأساسية في العالم مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي، ولم يلتفتوا إلى القارة الإفريقية التي كانت لا تزال جل دولها ترزح تحت نير الاستعمار.
وشكل عقد مؤتمر باندونج عام 1955 بإندونيسيا، نقطة تحول في السياسية الخارجية الإسرائيلية، خصوصا وأن هذا المؤتمر حضرته وفود 29 دولة أفريقية وآسيوية، واستمر لمدة ستة أيام، وكان النواةَ الأولى لنشأة حركة عدم الانحياز، ولم توجه فيه الدعوة للدولة العربية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد حيث أدان المؤتمر في بيانه الختامي احتلال إسرائيل للأراضي العربية.
وبعد سنتين من ذلك أي في سنة 1957، كانت إسرائيل أول دولة أجنبية تفتح سفارة لها في أكرا بعد أقل من شهر واحد من حصول غانا على استقلالها. وقد لعبت السفارة الإسرائيلية في أكرا دوراً كبيراً في تدعيم العلاقات بين البلدين، وهو ما دفع إلى افتتاح سفارتين أخريين في كل من منروفيا وكوناكري.
وبعد سنوات من ذلك كانت إسرائيل تحظى بتمثيل دبلوماسي في كافة الدول الإفريقية جنوب الصحراء باستثناء كل من الصومال وموريتانيا.
بنبركة يحذر من التغلغل الإسرائيلي
خلال مشاركته في "ندوة فلسطين العالمية" التي نظمها الاتحاد العام لطلبة فلسطين بالعاصمة المصرية القاهرة ما بين 30 مارس إلى 6 أبريل 1965، ألقى المعارض المغربي اليساري المهدي بنبركة كلمه تحت عنوان "دور إسرائيل في إفريقيا" حذر فيها من التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا.
وجاء في كلمة بنبركة إن دور إسرائيل "نرفضه كعرب ونرفضه كمناضلين ثوريين، نرفضه كعرب لأن دور إسرائيل في إفريقيا هو جزء من مخطط استعماري ضد الثورة العربية، نرفضه كمناضلين ثوريين لان دور إسرائيل في إفريقيا هو جزء من الخطة الاستعمارية ضد حركة التحرر العالمية. إن إسرائيل تعتبر أن دورها في إفريقيا وفي مجموع البلاد المتخلفة دور حيوي".
واستشهد بنبركة في كلمته على الأطماع الإسرائيلية في إفريقيا بتصريحات لزعماء الدولة العبرية وقال "وقد قال بن جوريون أمام المؤتمر الصهيوني الخامس والعشرين " إن المستقبل الاقتصادي الإسرائيلي ووضعها الدولي يتوقفان على الروابط التي نجتهد بإقامتها مع إفريقيا وآسيا" وقال اشكول "إن مستقبل الأجيال المقبلة في إسرائيل مرتبط بمقدار كبير بنشاطنا في القارة الإفريقية".
وطلب من القادة العرب مواجهة التغلغل الإسرائيلي مواجهة "علمية فنعرف كيف استطاعت إسرائيل أن تلعب دورا في إفريقيا. وكيف نستطيع نحن أن نمنع إسرائيل أن تكون أداة الاستعمار في إفريقيا ضد مطامح الشعوب الإفريقية نفسها".
ودعا بنبركة الذي يعد من بين مؤسسي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى كشف زيف الصورة التي تحاول إسرائيل تسويقها عن نفسها، والتي استطاعت من خلالها خداع العديد من الزعماء الأفارقة.
"فقد نجد مثلا موديبو كيتا وهو أحد الزعماء في إفريقيا الثورية قد انخدع بها. ماذا كان يقول سنة 1958 بسبب اتصالاته الأولى بإسرائيل ، وعدم معرفته لحقيقة الوضع في إسرائيل ؟
قال موديبو كيتا " لقد أصبحت إسرائيل قبلة تحج إليها الشعوب الإفريقية لتستلهم منها أسلوب بناء بلادها .و أن إسرائيل غدت بحق المثال الحي للشكل الإنساني الذي يبنى على أساسه المجتمع الجديد ".
و نستمع إلى احد الطلبة يتحدث قائلا:" يمكنني إذا ذهبت إلى الولايات المتحدة أن أدرس تاريخ التنمية الاقتصادية ولكن إذا ذهبت إلى إسرائيل فإنني أستطيع أن أشاهد النمو فعلا".
ونجد الرئيس نيريري ، وهو أحد زعماء إفريقيا التقدمية أيضا يقول في نوفمبر1960 :"إن إسرائيل بلد صغير ولكنها يمكنها أن تفيد كثيرا بلدا كبلادي ، ويمكننا أن نتعلم منها كثيرا ، لأن مشاكلنا ومشاكل تنجانيقا تشبه مشاكل إسرائيل. ما هي هذه المشاكل؟".
ونبه بنبركة إلى نجاح إسرائيل في سياستها اتجاه الأفارقة وقال "وهنا يجب أن نعطي أهمية كبرى للدور الذي تلعبه هذه الدول الإفريقية الجديدة في المنظمات الدولية سواء كانت هذه المنظمات إفريقية أو الأمم المتحدة نفسها. ففي سنة 1963 مثلا نجحت إسرائيل بعض الشيء بعد أن عقد المؤتمر الأول لرؤساء الدول الإفريقية بأديس أبابا حيث أن هذا المؤتمر المنعقد في مايو 1963 لم يتخذ أي قرار بإدانة إسرائيل .فراحت إسرائيل تعتبر هذا انتصارا لها". وأكد بنبركة أن هناك
"معركة بيننا كعرب وكمناضلين ثوريين وبين هذا التسرب الإسرائيلي. وهذه المعركة يجب أن نعترف أن لها مدا وجزرا وأننا تارة نكون منتصرين وتارة يكون الاستعمار له الأسبقية في الميدان.
وقد استمرت هذه المعركة سجالا بيننا وبين الاستعمار فيما يخص الدور الاستعماري لإسرائيل منذ مؤتمر باندونغ. ويجب القول هنا أن الفضل يرجع إلى الرئيس جمال عبد الناصر بوضع القضية لأول مرة على الصعيد الدولي ، بعد أن منعت إسرائيل من حضور مؤتمر باندونغ رغم تدخلات دولتين آسيويتين إذ ذاك لقبولها، واتخذ لأول مرة قرار يدين ويفضح هذا الدور الذي تقوم به إسرائيل في السياسة الاستعمارية".
بعد ثمانية أشهر..اختطاف بنبركة
بعد ثمانية أشهر من تحذيره من الدور المتنامي لإسرائيل في إفريقيا، وقبل شهرين من انعقاد مؤتمر القارات الثلاث بالعاصمة الكوبية هافانا الذي كان مدعوا للمشاركة فيه، وبالضبط في 29 أكتوبر من سنة 1965، اختطف بنبركة في العاصمة الفرنسية باريس، ولم يظهر له أُثر بعد ذلك.
وسبق لصحيفة "يدعوت أحرنوت" الاسرائيلية أن نشرت تحقيقا في شهر مارس من سنة 2015، تحدثت فيه عن ضلوع المخابرات الإسرائيلية في اختطاف واغتيال بنبركة، وأكدت أن اسم الشيفرة الذي أطلقه الموساد على قضية التعاون مع المخابرات المغربية آنذاك كان "بابا بترا".
وتمثلت مهمة الموساد الأولى حسب ذات المصدر في اكتشاف مكان بنبركة، وهذا ما تم حيث سلم الموساد عنوان مكان تواجد بنبركة للمخابرات المغربية.
الصحيفة الإسرائيلية نقلت عن أليعزر شارون، الذي كان يدير مكتب "الموساد" في المغرب، أن المغاربة أبلغوه لاحقًا أنه في كل مرة كان يخرج فيها رأس بن بركة من الماء كان يبصق في وجه الدليمي ويشتم النظام المغربي، مضيفًا إن بن بركة قُتِل في الشقة من التعذيب، حيث كانوا يشددون تعذيبه في كل مرة.
وبعد مقتل بنبركة طلب المغاربة العون من الموساد، وأرسل رافي إيتان مسؤول الموساد في إسرائيل، لهم من يساعدهم في التخلص من الجثة، وقد حمل رجال "الموساد" حسب رواية يدعوت أحرنوت الجثة ونقلوها إلى غابة قريبة من باريس حيث دفنوها. ومن أجل التغطية على الجريمة ألقوا على الجثة مادة كيميائية تتفاعل بشدة مع المياه لتذويب الجثة.