لكن من هو هذا "الله" الذي تُسال أطنان مطننة من الدماء البشرية البريئة باسمه؟ من هو هذا "الدراكولا" الذي لا يُمكن إطفاء عطشه بدماء البشرية كلها؟ ألا يعتبر غريبا كل الغرابة عن البشرية وعدوها اللذوذ، الذي لم يفتأ في التاريخ الطويل للعنصر البشري عن إشعال الحروب باسمه؟ أهو الذي يأمر البشر بالفعل "للتقاتل عليه"؟ ومن أية طبيعة هو هذا الله الذي يرقص فرحا ويطلي وجوده البئيس بالحناء كلما اندلعت حرب باسمه؟
هدفنا الأساسي في هذا النص هو الحث على التحرر من أوهام عششت وعينا ولاوعينا العقائدي عن تصور الله وإجلاء الخداع العلني والمُضمر لكل من يأخذ الله كرهينة لترهيب البشر، في محاولة للبرهنة على أن الله الذي توهمنا الأطراف التي تسجنه في غياهب أيديولوجياتها، سواء أكانت رسمية أو فرق وشيع تطمح وتطمع في الإستيلاء على السلطة باسمه، ليست له أية صلة بالتصور الحقيقي عن الله؛ ومن الأفضل للبشرية القضاء النهائي وقتل هذا الله "الشغوف بالدماء البشرية"، لأنه لا يُمثل بأي حال من الأحوال التصور الإيجابي لله الرفيق الحميم والمرشد للخير والبركات. مرجعيتنا في هذا الإطار هو التحليل النفسي الفرومي، لأن فروم كان من بين المحللين النفسيين القلائل، الذين لم يتبنوا فكرة إقصاء الدين نهائيا، بل طالبوا بعيش التجربة الدينية، فرادى و جماعات، بطريقة بيوفيلية محكومة بالنزعة الإنسانية؛ وعيا منهم بأن الدين كمُعاش باطني هو من الأسس النفسية المتجذرة في الإنسان، لا يحق ولا يكمن حرمانه منه، وإلا فإنه سيفقد توازنه في الوجود وقد يُجن لأن التحديات الوجودية والطبيعية التي يواجهها يوميا تتطلب هذه الجزيرة النفسية للإطمئنان وللراحة واستعادة التوازن. والإشكالية الرئيسية التي تشغلنا هنا هي ليست ما إذا كان الله موجودا أم غير موجود، لأنها إشكالية ميتافيزيقية محظة، لا تسمن ولا تغني عن "جهل"، ولأنها من بين الإشكاليات الإفتراضية، عملت الكثير من المدارس الفلسفية على دراستها وأخذ موقف تخميني تأكيدا أو ضحدا. هناك عدد لا يستهان به من البراهين على وجود الله أو عدم وجوده. إذن ليس هذا الذي يهمنا في المقام الأول هنا، بل ما يوقظ مضجعنا هو كيف حصل ولماذا حصل هذا الإنزلاق، الذي قاد مباشرة إلى هذا الإستغلال الفاحش لشحنة طاقة نفسية مهمة في النسق النفسي للإنسان، لتصبح صورة الله ما هي عليه الآن، وهي صورة لا ترضيه بالتأكيد ولا ترضي البشر الذين يعتقدون فيه؟
نركز حديثنا هنا عما حدث في الإسلام، واضعين المسيحية واليهودية بين قوسين، لأن لهما أهلهما ممن عليهم فحص هذا الأمر عن قرب، منطلقين من استنتاج أصبح بديهيا حتى عند المسلم العادي، أي ذاك الذي ورث دينه سمعا واقتنع به وجدانيا، مفاده أن ما يُفرض حاليا على المسلمين ليست له أية علاقة بالإسلام الحقيقي. وحتى وإن كان من باب شبه المستحيل تحديد إسلام حقيقي وآخر مزيف، فإن ملكة الحكم الطبيعية للإنسان توحي بأن ما يُفرض على المسلمين حاليا يتجاوز كل حدود العقل ولا يمكن السكوت عنه، تحت أية ذريعة كانت، وبالخصوص من طرف المفكرين المسلمين.
يظهر لنا بأن مشكل تمثل الله في الإسلام بدأ مباشرة مع وفاة النبي وترسيم لقب "أمير المؤمنين" وأخذ فكرة "إمارة المؤمنين" طريقها في شق الوعي الشقي الإسلامي، وما ترتب عن كل ذلك من انزلاق في فهم هذه "الإمارة". الغريب في الأمر أن محمدا لم يدع قط بأنه "أميرا على المؤمنين" ولا "خليفة لله على الأرض"، على الرغم من أنه نجح في تأسيس لبنات دولة إسلامية سياسيا. استحوذ "الخلفاء الراشدين" على لقب "أمير المؤمنين"، والواقع أنه كان يعني في زمانهم "خلافة الرسول" ومع مرور الزمن تحولت هذه الإمارة إلى "خلافة الله نفسه"، وهنا بالضبط نلمس الكارثة النفسية لفرض هذا الأمر على المسلمين وتحول في تمثل الله، كما وُرث عن محمد النبي. وقد استفحل هذا الأمر وأصبح أخطر بكثير عندما "استحودت" المَلَكِيَات" على هذا اللقب وتبعتها في ذلك "الجمهوريات العربية"، ليصبح كل ملك و كل أمير و كل رئيس (حتى وإن أقام نظاما شيوعيا) أميرا للمؤمنين، يعني في العمق خليفة لله، أو أكثر من هذا وصيا عنه. وتختلط الأوراق من جديد في ربع القرن الماضي، لأن لقب "أمير المؤمنين" هو لقب مربح سياسيا، لأنه أصبح من المقومات الرئيسية في نفسية المسلم. نجد أنفسنا حاليا أمام "أميرين للمؤمنين": الأول فرض نفسه منذ عشرات السنين ولربما قرون، والآخر "بعث" من فيافي صحراء الشرق الأوسط، ليطالب بالقوة والعنف بنصيبه من "الإمارة = الخلافة = سلب الله من كل حقوقه وسجنه في فكر ظلامي بئيس"، يدعي الرجوع إلى المنبع الأصلي، وهو منبع قد نشفت مياهه بفرط استعمالها في سقي أيديولوجيات متأسلمة في براري اللعبة السياسية للمسلمين.
ما حدث تحليل نفسيا هو ببساطة تقمص "أمير المؤمنين" لشخصية الله، مستغلا ضعف ملكة الحكم العقلي "لرعيته"، الناتجة أساسا عن حرمانها من التعلم بربطها بحبال غليظة لكي لا تبارح مرابضها ومرابطها المفعمة بالجهل والفقر والتبعية المادية والمعنوية "للأمير"، وإيهامها بأن الله نفسه هو الذي قرر ذلك، لأنه يعطي من يشاء ويسلب من يشاء. أصبح الأمير يشخص الله، بسلب هذا الأخير كل خصوصياته وصفاته، بل "سرق" حتى أسماء الله الحسنى ليطرزها على عباءة أو جلباب سلطته، وليصبح بهذا صنما يعبده البشر، ليس حبا فيه، بل خوفا من جبروته أو طمعا في "كيس من الذهب" منه. هكذا إذن أُقصي إله محمد مباشرة بعد موته، ليحل مكانه، بالتدريج على مر القرون، "أمير المؤمنين" و"حامي الملة و الدين" و"حارس الحرمين الشريفين" إلخ.
قتل "أمير المؤمنين" إله محمد، لينفرد بالسلطة، كما "قتل" أُديب والده ليستفرد بحب والدته. والمفروض على المسلم الآن هو الرجوع إلى المنبع الأصلي الأصيل وهو "قتل" "أمير المؤمنين" لينفرد المسلم بإله محمد. وهذا القتل ليس فيزيقيا، بل رمزيا محضا، قد تمثله حركة ثورة عارمة لمفكري الإسلام، ليعتقوا رقبة المسلمين من جبروت "آلهتهم الوثنية المتعددة"، المتناحرة، المتقاتلة. لا نرى أي حل وسط لتعويض "التقاتل على الله" الحالي من طرف "أمراء الجاهلين"، إلا بـ "التقاتل في سبيل" إخراج المسلمين من السجن الوثني الكبير، الذي أُقحموا فيه على الرغم من أنوفهم. وقد يكون "ظهور أمير المؤمنين" أو "خليفة لله" جديد في الشرق الأوسط، فرصة لا يجب تضييعها، لأنه يعري عن "عورات" كل أمراء المؤمنين، بما فيهم هو نفسه، فلا إمارة على المؤمنين إلا لإله محمد، وله وحده دون شريك.