هناك بالفعل "نفحة"، أو كما يقول المغاربة "تبزيرة"1، إيروتيكية في أماكن متعددة في الديوان، لكنها لا تمثل في عرفنا إلا القشرة الخارجية له، لربما لاستدراج قارئ "منوي"2 أو قارئة تبحث عن النقطة „G“. و تعتبر هذه النفحة غير بريئة، لأنها تخدم في اعتقادنا نقدا عميقا لتركيز العقلية العربية على "اللذة" كأسمى مبدأ في الحياة، و بالخصوص اللذة الجنسية. ففي ثقافة كبت و حرمان و ضغط التقاليد و العقيدة، يُصبح فعل "أَحَبَّ" هو "رَغِبَ"، و لا يُعاش الحب كمقدمة "للشهوة" و هذه الأخيرة نتيجة له، بل يُختزل فيها و يقضي معظم العرب (إناثا و ذكورا) حياتهم و يفنون طاقاتهم في محاولة الوصول إليها بكل السبل و في كل الأوقات و في كل مكان. إذا كان إيريك فروم قد طور نوعا من فلسفة الحب، فإن العرب قد طوروا بسلوكات لا تحصى و لا تعد نوعا من فلسفة "البحث عن الشهوة الجنسية" و برعوا في "لعبة القط و الفأر" مع عقيدتهم في هذا الأمر: الكل يمارس الجنس أو يطمح لذلك و الكل يوهم بأنه يحترم الخطوط الحمراء للمجتمع و الدين في هذا الإطار. و تعبر قصيدة "خيول الشهوة" عن هذا بصورة شعرية ممتازة: "أسرجت الأرض مجونا/و أطلقت صهيلها/تولج الليل في النهار/ لا الليل/ يهدئ من روعها/ و لا النهار قادر على عنادها"، و يضيف في قصيدة قصيرة و جميلة: "دورة الحياة إلى ما لا نهاية": "بين الفينة و الأخرى تهجم الجارة على الموبايل/ و بسرعة الميكروفيلة،/ ينهي الجسد تمارينه/ في انتظار وجبة ثانية".
بعد نبش و لو طفيف القشرة التي تلف الديوان، يدخل القارئ عالما سحريا بامتياز، تعانق فيه اللغة القافية و يرتميان معا جسدا في جسد في فراش الإستعارات و التشبيهات و الصور الشعرية "اللذيذة" لتحبل المخيلة قبل الرعشة الأولى و تلد قصائد غزلية في اللغة و جمالها و عالمها الفاتن. تصبح القصيدة امرأة و يتفنن الشاعر في ذكر محاسنها و مفاتنها و يُفصح عن رغبته الشبقية فيها: "سين سؤال العطش/ و هاء الشهوة و الرعشة و أشياء أخرى/ يتبعها الألف، لماليف العشاق/ و الميم محبة". تنطلق سهام القصيدة (سهام المرأة) اتجاه اللغة و:
"تتبعثر اللغة فيطلع الحرف شهيا يسير بهيا نحو القصيدة"3
و يعترف الشاعر بأنه لم يكن ينتظر هذه السهام: "أتتك القصيدة خلسة وعبثا تركب حروفك على بعضها البعض
ربما لترسم على الشفتين
طريقا نحو النار"
"تَهْتِكُ" القصيدة إذن صمته و تجره نحوها جرا و يصرخ في وجهها4: "الأبجدية فرج مخبأ للشهوات" و يتيه في دوخة القافية تيهان سندباد شعري في بحر الحروف: "لم أفهم لماذا تركب الحروف كما تركب المواد الكيماوية"5، و هو نفس التركيب الذي يقع عندما يسقط إنسان في حب إنسان آخر.
يصل الشغف Leidenschaft في العشيقة (اللغة) ذروته في قصيدة "الغاوون" و يحدث هذا الحلول الصوفي بين الشاعر و "شهرزاد"، بل هذا التوحد بها بلغة شاعرية راقية و عميقة، متجاوزا اللغة العادية المستعملة بين بني البشر، كصائغ حذق، يصفف حبات البلار على خاتم من ذهب: "لي في اللغة/لغة أخرى، أصفف الحروف/ و أنتظر جواب الكلمات". يسبح الشاعر كسندباد في بحر قصيدة تتلاعب أمواج قواعد اللغة العربية فيها و تداعب خيال فاتن يضرب بسوط النقد حصان فعل كان مروضا إياه، لكي لا يبقى ناقصا في الماضي، بل ليفعل في المستقبل: "كان/ فعل ماض ناقص/ و أكون/ أين هي/ من الحاضر و المستقبل؟". و هذا جميل جدا في ثقافة مؤسسة حتى النخاع الحضاري على "كان أجدادنا" و "كان يا مكان في قديم الزمان".
ختاما لا يمكن قراءة ديوان "زغب المياه الراكدة" بين محطتين للأوطوبيس "لقتل الوقت"، الذي يقتلنا في كل وقت، لأنه يحمل القارئ إلى عالم سحري، تتجلى فيه القصيدة في كل مفاتنها و تشد القارئ لها، كما شدت شهرزاد ذاك الملك الشهواني، الذي انتهى بالزواج منها، لأنها استطاعت بقوة اللغة، التي يُقال أن الله خلق الكون بها، سحره و شده لها. فلتحيى القصيدة التي تتزوج اللغة، و ليرزق هذا الزواج بنفس الجنس آلاف الأطفال السعداء.
1 تعبير مغربي عامي قح، للتأكيد على لذة الأكل، و مصدرها من اللغة الفصيحة "الإبزار".
2 استعارة من لب "صنعنا"، المقصود منها أن غالبية الرجال العرب لا يفكرون إلا في التخلص من حيواناتهم المنوية.
3 في قصيدة "سيرة العشب"
4 في قصيدة: "المطر يهطل إلى ما لا نهاية".
5 في قصيدة: "الصواريخ تعبر الجسد"