تصلح كل هذه الأجوبة لتكون توصيفا لما يقع في ليبيا، لكنها، في الوقت نفسه، لا تجيب عن السؤال الجوهري، من المستفيد مما يقع؟ وعندما نجيب عليه، يمكن أن نتلمس جواباً أقرب إلى الدقة عن السؤال الأول.
هناك من يرى، اليوم، في تحرك جزء من الجيش الليبي، تحت قيادة عسكري ذي ماضٍ يلفه غموض كثير، وطموحات غير واضحة، أو على الأقل مازالت غير معلنة، بمثابة محاولة أخيرة لإنقاذ الدولة الليبية من الانهيار الشامل، ومن التحول إلى أفغانستان أو صومال جديدة. وهناك من يتابع بخوف تكرار سيناريو الانقلابات العسكرية التي تبدأ بإعلان نيات حسنة، وتنتهي بفرض الأمر الواقع، بقوة الحديد والنار. وقد تعهد قائد التحرك العسكري الحالي في ليبيا، اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بأنه سيدعم تولي القضاء الأعلى إدارة البلاد انتقاليا، وبتنظيم انتخابات للبرلمان، تنتهي بإعادة حكم البلاد إلى المدنيين. لكن، متى احترم عسكري انقلابي تعهداته؟
تفيد أغلب المؤشرات الآتية من ليبيا بأن اللواء حفتر يسير على خطى المشير المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي ادعى أن الشعب من فوّضه لمواجهة ما يسميه "الإرهاب"، ومن استدعاه للترشح للرئاسة. وقد صرح حفتر بأن المظاهرات التي شهدتها بعض مدن ليبيا ضد فوضى السلاح تفويض شعبي لصالحه، للقضاء على ما يصفه، أيضا، بـ "الإرهاب"، وأعلن أنه قد يترشح لمنصب الرئاسة إذا ما طلبت منه الجماهير ذلك، وعبر صناديق الاقتراع لمبايعته.. تماما، كما بويع نموذجه الأعلى السيسي!
ما يجري اليوم في ليبيا محاولة لإعادة استنساخ الانقلاب العسكري في مصر، والهدف واحد، هو الإجهاض على كل محاولة انتقال ديمقراطي في دول "الربيع العربي"، مع فرق واضح، يتمثل أساساً في أن تحرك اللواء حفتر سيستفيد من أخطاء انقلاب السيسي. فبعكس ما حدث في مصر، وجد التحرك العسكري في ليبيا ترحيباً مبدئياً من الغرب، وخصوصاً أميركا التي لا تريد تكرار خطأ تأخر اعترافها بانقلاب مصر.
وقفت أميركا، في البداية، ضد الانقلاب العسكري في مصر، لكنها اضطرت إلى مراجعة موقفها، تحت ضغط تطورات فرضها العسكر بالقوة على أرض الواقع، ما قد يجعلها لن تتأخر في التعاطي مع أي واقع جديد، تفرضه التطورات المتسارعة في ليبيا، خصوصاً إذا مالت الكفة لصالح عسكريٍّ، ظل قريبا منها، هو اللواء حفتر الذي عاش نحو ربع قرن في أميركا، وحظي بدعمها، عندما كان معارضا للقذافي.
يضاف إلى هذا كله، أن الدول الغربية، ومنها أميركا ودول الجوار الليبي، متوجسة مما يقع داخل ليبيا، بحكم قربها من أوروبا، واحتياطاتها النفطية الكبيرة، وانتشار السلاح داخل ترابها، وتعدد ولاءات الجماعات المسلحة، الناشطة فوق ترابها، بما فيها تلك المحسوبة على تيارات متطرفة، وتنظيمات مصنفة بأنها "إرهابية". لكن أيا من القوى الدولية، أو الإقليمية، ليست مستعدة للتورط في أزمة مفتوحة على كل الاحتمالات. لذلك، لن يكون مفاجئاً إذا ما حظي أي انقلاب عسكري في ليبيا - وتحرك اللواء حفتر أقرب إلى الانقلاب منه إلى أي شيء آخر - بمباركة كل هذه القوى، إذا ما نجح في تحقيق أهداف مشتركة، من قبيل القضاء على المليشيات المسلحة المتطرفة، وضبط الحدود، ووضع نهاية للفوضى الأمنية، ولو جرى ذلك كله على حساب الحرية والكرامة، وكل المبادئ التي قامت من أجلها الثورة!
عربياً، وكما لم يعد خافياً، لقي تحرك اللواء حفتر ترحيباً على المستوى الإعلامي في بعض دول الخليج، وربما هناك ما هو أكبر من الدعم الإعلامي. فالسعودية ودول تدور في فلكها، لا تريد لأي تجربة ديمقراطية أن تنجح في دول "الربيع العربي"، خصوصاً إذا كانت من ستقودها تيارات من الإسلام السياسي. وعلى حدود ليبيا الشرقية والغربية، خصوصاً في مصر والجزائر، وكلاهما تحكمهما، أو تتحكم فيهما، المؤسسة العسكرية، فإن دعمهما عودة عسكري إلى حكم ليبيا سيكون تحصيل حاصل.
ما يسعى حفتر، وكل من يدعمه، إلى فرضه، هو وضع الشعب الليبي والعالم أمام خيارين لا ثالث لهما: الدفع بالبلاد نحو انقلاب عسكري بكل سَوْءاته، أو جرها إلى جحيم حرب أهلية، لا تبقي ولا تذر. لكن، أليس هناك طريق ثالث؟ طريق الديمقراطية التي قامت من أجلها الثورة، واستشهد من أجلها الشهداء. تلك طريق المستقبل، وذلك هو اتجاه التاريخ. لكن، من يقود الشعب الليبي إليه؟