هذا البلاغ يثير الكثير من الملاحظات القانونية والسياسية:
أولا، إن القائمين على هذه الجمعيات اختاروا أن يعملوا في إطار جمعيات تشتغل وفق ظهير الحريات العامة لسنة 1958، وذلك منذ السبعينيات، وهذا اختيار حر للمؤسسين لاحق لأحد أن يمنعهم منه، ماداموا يشتغلون في إطار القانون، ويحترمون ثوابت المملكة ولا يعتمدون منهجا تربويا نظاميا يتوج بشهادات تعليمية حتى تفرض عليهم الدولة الانخراط في نظام تعليمي صارم "اسمه التعليم العتيق"، ولو أرادوا التعليم العتيق لاختاروه عن طواعية، ولذلك لا حق لوزارة الأوقاف أن تصدر قرارا يقضي بإغلاق جمعيات قائمة، وفي ذلك تعارض مباشر مع الفقرة الثانية من الفصل 12 التي تنص بشكل صريح على أنه "لا يمكن حل هذه الجمعيات والمنظمات أو توقيفها من لدن السلطات العمومية، إلا بمقتضى مقرر قضائي".
ثانيا، إن التأويل الخطير الذي ذهب إليه بلاغ وزارة الأوقاف يريد أن يجعل من الدولة دولة مهيمنة على مبادرات المجتمع المدني، ووصية على إبداعاته، وتأميم الجمعيات التي تسهر على تحفيظ الأطفال والنساء والشباب القرآن الكريم وتعلمهم مبادئ الدين، بحجة أن الدولة استطاعت أن تحقق الكفاية في هذا الأمر، وهذا أمر غير صحيح، فهناك خصاص مهول في هذا الباب والدليل على ذلك هو إقبال عدد من المواطنين على هذه الجمعيات بشكل واع، وهو ما يعتبر معه قرار إغلاق هذه الجمعيات انتهاك صريح لحق عدد كبير من المواطنين الذين يحرصون على تعليم أبنائهم القرآن الكريم وعلوم القرآن والسنة..
ثالثا، هناك العديد من الجمعيات التي تشتغل على موضوعات هي من صميم واجبات الدولة ولم يطلب منها أن تسوي وضعيتها لتكون تابعة لقطاع عمومي معين، فلم يطلب من الجمعيات الرياضية أو الثقافية أو الفنية أن تكون تابعة لقطاع من القطاعات الحكومية المعنية، فقط، لأن الدولة لها مناهجها القائمة في هذا المجال..
رابعا، أنا شخصيا أتفهم، حرص الدولة على مراقبة مثل هذه الجمعيات مخافة أن تتحول لأماكن لنشر فكر ديني متطرف من شأنه تهديد البلاد والعباد، لكن بلاغ وزارة الأوقاف جاء خاليا من مثل هذه التخوفات، وهو ما يعني أنها تفتقر لأي حجة في هذا الباب، وحسب المعلومات التي أتوفر عليها شخصيا، فإن القائمين على هذه الجمعيات تؤطرهم رؤية إسلامية معتدلة تنهل من نهج السلف الصالح، وهي تحاول أن تعيش عصرها في انسجام مع مبادئ الدين والوطن وثوابت المملكة المغربية..
ولنفرض جدلا، أن هناك ملاحظات معينة، فإن التنبيه عليها بالحوار وبلغة الإقناع هو المطلوب عوض اللجوء إلى لغة المنع والقمع التي أثبتت فشلها في تدبير الكثير من الملفات..
خامسا، لماذا هذه الحساسية المفرطة من جمعيات تشتغل على القرآن الكريم والسنة، في الوقت الذي يتم فيه غض الطرف عن جمعيات أخرى، أضحت متخصصة في المهرجانات الفنية الكبرى، وتوفر لها كافة الإمكانيات والمساعدات بدون موازين مضبوطة؟
ألا تشجع مثل هذه القرارات على تغذية أفكار متطرفة ترى في الدولة طرفا منحازا لثقافة دون أخرى..
دعونا نطرح السؤال الأهم..هذا قرار سياسي بالدرجة الأولى، جرى تغليفه بلغة قانونية، اتخذه وزير ينتمي إلى حكومة يرأسها حزب يعتز بانتمائه للمرجعية الإسلامية، وهناك محاولات مكشوفة لإفشاله في مسيرته الإصلاحية، هل تريد جهات المحافظة والجمود أن تدفع الناس للاعتقاد بأن هذا القرار اتخذ في عهد هذه الحكومة الملتحية إمعانا في الإذلال؟
لنكن صرحاء هذا القرار اتخذ خارج الحكومة، ولا دخل للحكومة فيه، لكنه قرار يلزم رئيس الحكومة بتحمل مسؤوليته الدستورية أمام الله أولا، وأمام الوطن ثانيا، وأمام الملك باعتبارها أميرا للمؤمنين ثالثا وأخيرا..
فللصبر حدود على أية حال..