في عصرنا الحالي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تشكل إحدى الأدوات الأساسية لتوجيه الرأي العام، حيث باتت هذه المنصات ميدانا تنافسيا بين الصحافيين والمؤثرين على حد سواء. الصحافة، التي لطالما كانت تعتبر السلطة الرابعة، تواجه الآن تحديا جديدا مع صعود المؤثرين وصناع المحتوى، الذين تمكنوا من جذب انتباه شريحة واسعة من الجمهور، خصوصا الشباب. بينما يلتزم الصحافي بأخلاقيات مهنته من دقة وتحقيقات مهنية، يظل المؤثر محكوما بمنطق الجذب والمتابعة على منصات التواصل. في هذا السياق، يبرز السؤال: من يمتلك التأثير الحقيقي على الرأي العام؟
تأثير الصحافي والمؤثر: الفرق في الأدوار والمسؤوليات
في الوقت الذي يوجد فيه تنافس بين الصحافيين والمؤثرين الذين يحققون شهرة واسعة من خلال تناولهم لمواضيع الساعة، تؤكد ريم التيبوتة، وهي صحافية من موقع "لوبينيون" أن الصحافة تظل "مهنة قائمة على أسس واضحة. فبينما يتمتع المؤثر بالحرية في تناول المواضيع بشكل غير خاضع للضوابط، يبقى الصحافي ملتزمًا بآليات العمل المهني."
وبحسبها فإن تأثير كل طرف على الرأي العام يختلف حسب الجمهور المستهدف. فالفئة المثقفة التي تعودت على متابعة الصحافة المهنية كمصدر موثوق للمعلومة، "لا تتأثر بسهولة بما يقدمه المؤثرون، في حين أن الشباب، الذين يستهلكون الأخبار عبر منصات التواصل الاجتماعي، يتأثرون أكثر بالمحتوى الذي يقدمه المؤثرون، بحكم قربهم وتفاعلهم المستمر معهم".
وفي هذا السياق، نجد أن "الصحافي المؤثر" بدأ يظهر كمفهوم جديد، يجمع بين الدقة الصحافية والأسلوب الجذاب للمؤثرين. "هذا النموذج يسمح لبعض الصحافيين بالوصول إلى جمهور أوسع، خاصة في فئة الشباب، وهو ما يساعد على تعزيز دور الصحافة في العصر الرقمي" حسب الصحافية.
"يمكن تشبيه العلاقة بين الصحافي والمؤثر بتلك التي تربط طبيب الأسنان بصانع الأسنان: الأول يتبع خطوات دقيقة قبل التشخيص أو التدخل، بينما يكتفي الثاني بحل المشكلة في جلسة واحدة. النتيجة قد تكون متشابهة، لكن مستوى المخاطر يختلف بشكل كبير. وهذا هو الفرق بين الصحافي والمؤثر. وفي النهاية، رغم وجود نوع من التنافس، إلا أنه غير متكافئ. ومع ذلك، لا يمكن إنكار تأثيره ووجوده"
المؤثرون والصحافة: في مواجهة الضغط والتحديات
على الرغم من هذا التنافس، يظل الصحافي متميزا في دوره، وفقا لما يؤكد الخبير في الاتصال الرقمي، مروان هرماش، الذي يشير إلى التحول الكبير في المشهد الإعلامي. "في الماضي، كان الصحافي هو المصدر الوحيد للنقاش العام والتحليل الإعلامي، أما اليوم، فقد أصبح يتقاسم هذا الدور مع المؤثرين الذين ينشطون على منصات التواصل الاجتماعي، مما غير قواعد اللعبة بشكل جذري."
ويضيف هرماش أن الصحافة لا تزال مهنة تخضع لضوابط صارمة. فالمؤثر، على عكس الصحافي، غالبا ما يتجنب التحقق من المعلومات أو تحليل السياقات الاجتماعية والسياسية. هذا التفاوت في المسؤوليات يجعل الصحافة أكثر موثوقية ودقة، على عكس المحتوى الذي قد يقدمه المؤثرون الذين في بعض الأحيان يركزون على جذب المشاهدات بدلا من التأكد من صحة المعلومات.
إحدى القضايا التي سلطت الضوء على هذا التفاوت كانت قضية سلمى، التي أثارت جدلا واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي. الشابة البالغة من العمر 19 عاما، التي تعرضت للاعتداء من قبل شابة في مثل سنها، وجدت نفسها مجددا في مواجهة تهديدات بعد انتهاء محاكمة المعتدية. وفي هذه القضية، تفاعل العديد من المؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي، حيث أطلقوا هاشتاغ #كلنا_سلمى للمطالبة بحماية الضحية. هذا التحرك السريع من المؤثرين، إلى جانب التغطية الإعلامية من الصحافة، أسهم في دفع السلطات إلى اتخاذ إجراءات فورية، ما أدى إلى اعتقال المعتدية.
رغم أن هذه الحملة كانت فاعلة في الضغط على السلطات، إلا أنها تطرح تساؤلات حول دور الصحافة في معالجة قضايا قانونية واجتماعية. هل كان للمؤثرين دور محوري في هذه القضية، أم كان للصحافة دور أكبر في تقديم التحليلات والتقارير الموضوعية؟ وهذا يبرز الفجوة بين الصحافة التي تعمل وفقا لأطر قانونية وأخلاقية وبين المؤثرين الذين قد يتجاهلون أحيانا دقة المعلومات من أجل تحقيق مشاهدات ومتابعات.
إعادة تعريف الصحافة في العصر الرقمي
من جانب آخر، يؤكد هرماش أن "إشكالية تأثير المؤثرين تكمن في عدم وجود ضوابط واضحة تحكم عملهم. بينما يجبر الصحافي على تقديم الوثائق والشهادات الرسمية لممارسة مهنته، يستطيع المؤثر أن ينشر محتوى يصل إلى ملايين الأشخاص دون أي التزام قانوني أو أخلاقي."
من هنا تبرز الحاجة الملحة بحسب الخبير، إلى تأطير قانوني لوضع صانعي المحتوى، خاصة بعد أن أصبحت هذه الممارسة مصدر دخل معتمد للعديد منهم، كما بات المعلنون يتعاملون معهم بصفة رسمية. يجب أن يُعترف لهم بوضع قانوني واضح، وأن يتحملوا مسؤولياتهم أمام الدولة والمجتمع
"الصحافة لا تزال تلعب دورا لا غنى عنه في المجتمع، رغم التحولات التي شهدتها وسائل الإعلام. لقد عشنا عقودا طويلة بدون مؤثرين، لكن الصحافة ظلت ركنا أساسيا في الحياة العامة، لأنها تلعب دورا في نقل الحقيقة وتنوير الرأي العام".
واختتم الخبير حديثه قائلا "لا يجب على الصحافي أن يشعر بالمنافسة، فالمكانة تختلف تماماً. من وجهة نظري، يمكن للمجتمع أن يستغني عن المؤثر، لكنه لا يمكنه أبداً الاستغناء عن الصحافي".