مخطئ من يعتقد أنه بموت الشيخ ياسين ستموت الجماعة، لكن مخطئ أيضا من يعتقد أن جماعة العدل والإحسان ستبقى هي نفسها حتى بعد ذهاب مؤسسها.. إنها سنة الحياة تمس الأفراد كما الجماعات، أقصد التحول والتغيير.
ارتسمت بين الشيخ والحكم أسوار من المعاناة والمواجهة والأحقاد أيضا، وإذا كان تكوين الزعيم الراحل قد حصر الجماعة في الجانب الأخلاقي التربوي والدعوي، وكان بزهده قد كسا جماعة سياسية بطابع صوفي، فإن مرحلة ما بعد الربيع العربي، الذي سمح بصعود أقطاب إسلامية إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع،هي غير المرحلة التي صيغت فيها أطروحة الشيخ الراحل، ومن تم فإن مستقبل الجماعة محكوم بقدرة ورثة تنظيم الشيخ ياسين، على تطوير هذا التراث الفكري والتنظيمي الباذخ الذي نشأ في ظروف الحصار والقمع وغياب الثقة بين جماعة العدل والإحسان والحكم من جهة، وبين الجماعة وباقي الفاعلين السياسيين من جهة أخرى...
إن لحظة تأبين الراحل ياسين كما تتبعها الإعلام، والحضور الوازن لزعماء الأحزاب وما قيل في حق الراحل حتى من طرف أشد المختلفين معه سياسيا وفكريا، تفرض على ورثة ياسين، التفكير في منطق العائلة السياسية، والانتباه إلى فضيلة الاختلاف وإدارة الصراع السياسي عبر الحوار بدل التعالي وعزل الذات أو اللجوء إلى القوة الاستعراضية للتميز عن باقي "الفضلاء الديمقراطيين".
إن السياسة بوصفها تعبيرا عن تدافع المصالح، تُبنى على الأرض، وهو ما يفرض على جماعة العدل والإحسان أن تُنزل السياسة من علياء السماء إلى الأرض حيث يكمن ما ينفع الناس، لأن الواقعية السياسية لا تعني بيع المبادئ والخضوع للسلطة وخيانة الرسالة.. جماعة العدل والإحسان تنظيم سياسي يسعى إلى الحكم بالطرق السلمية المشروعة، تلك هي فضائل الديمقراطية، ولا تشكل دولة في قلب الدولة؟ كما أن الواقعية السياسية تُنجي التنظيم من القداسة التي تقود إلى الاستبداد، وتجنبه الخرافة والعزلة، وتجعل أفراده يؤمنون بحق الآخرين في الوجود المختلف..
لذا فإن أكبر وفاء لنضال الشيخ ياسين هو إبداع الورثة أشكالا جديداً لتطوير جماعة العدل والحسان في أفق تحويل الشرعية التنظيمية إلى شرعية سياسية في سياق الاعتراف المتبادل المبني على قواعد قانونية واضحة.
إن عبارة حسن بناجح حين صرح "لا مشكل لدينا مع العمل السياسي المشروع"، ليست مجرد تنميق كلام في خطاب جنائزي، بل هو تعبير لدى العديد من أطر الجماعة التي تؤمن بالعمل في ظل المؤسسات..
العدل والإحسان أكثر من جماعة، لكنها ليست دولة قائمة.
وقبل مرورها إلى العمل الشرعي المؤسساتي، فإنها تحتاج إلى تمرين سيكولوجي لتحطيم الأسوار التي ارتفعت مع ما عاناه أعضاؤها من سجن وقمع ومضايقات، أقصد الوضوح السياسي الذي يعتبر ضرورة لأي مشروع إيديولوجي/ مجتمعي، وإذا كان فتح الله أرسلان المؤهل الأقوى لقيادة جماعة العدل والإحسان بعد المرحلة الانتقالية التي يمر منها التنظيم، قد صرح مرة بأنه يريد ملكية عصرية كما في الدول الأوربية، فإن ذلك يفرض على ورثة ياسين – ولاه الله برحمته – أن يجعلوا من جماعة العدل والإحسان تنظيما ديمقراطيا، حيث يتم الاعتماد على الانتخاب والصناديق الشفافة وتعدد المتبارين على قيادة الجماعة مع حضور وسائل الإعلام، وهو ما سيدفع باتجاه تحرير مريدي الجماعة من عقلية القطيع والانضباط الصارم، وتحويلهم إلى أفراد مدنيين مشاركين في صناعة القرار في الجماعة التي اختاروا طوعاً الانتساب إليها..
لكن أيضا نحتاج إلى عقلاء داخل جهاز الحكم.. فالدولة باعتبارها التجسيد القانوني لروح الأمة، لا يمكن أن تحمل حقداً أَوْ كرها للمنْتسبين إليها، ولا يمكنها أن تأكل أبناءها، وجماعة العدل والإحسان هي جزء من هذا المجتمع الذي تمثله الدولة.
لقد حفظ تنظيم الشيخ ياسين لنفسه هوية خاصة، متميزاً بطقوسه ورموزه، وأضحى رقما من الصعب تجاوزه في كل الاستراتيجيات التي يرسمها الحكم أو باقي الفاعلين..
لذلك نحتاج كمغاربة، في هذه اللحظة التي طوى فيها الموت الطبيعي، كلا من الحسن الثاني والشيخ عبد السلام ياسين، إلى حكماء داخل الحكم وداخل الجماعة ليتبادلوا التحايا ويردون بأحسن منها، وتعتبر وساطات الحوار أسلوباً متميزاً لإدارة الاختلاف بشكل سلمي وحضاري.. فتعالوا معا إلى مائدة سواء.