وكالعادة يخرج الناس إلى الشارع بدون أن يكون أغلبهم قد شاهد العمل، ويتعاملون مع القضية على أنها سياسية وأنها تتجاوز نوايا منتجي العمل كأفراد، أياً كانت الظروف، علماً بأن القضية قد تكون كذلك وقد لا تكون.
المقاطع التي تم بثها على الأنترنيت من فيلم "براءة المسلمين" تتضمن صوراً يُفترض موضوعياً أن تكون صادمة للمشاعر الدينية للمسلمين، بل إن مثل تلك الصور إذا همَّت ديانة أخرى، يمكن أن تخلف أيضاً بعض ردود الفعل. ولكن المعروف اليوم أن ردود الفعل الصادرة عن أتباع الديانات الأخرى لا تكون على نفس القدر من القوة والاتساع الذي تتخذه ردود فعلنا نحن، فلماذا ننزلق إلى رد فعل يصبح فيه هذا الأخير أكثر إساءة إلى الإسلام من الفعل نفسه؟
مبدئياً، ودون دخول في التفاصيل، لا بد من التأكيد على أن المنظومة الحقوقية الكونية تفرض احترام القناعات الدينية للأفراد والجماعات. هذا الاحترام يلقي على عاتق الجميع واجبات متعددة، كالامتناع عن توجيه دعوة إلى ممارسة العنف ضد أتباع ديانة ما أو التحريض على الكراهية إزاءهم، ويمكن للترسانة الحقوقية العالمية أن تنفتح على مساهمة المسلمين لتدقيق بعض تلك الواجبات، بما لا يتعارض مع الفلسفة العامة لحقوق الإنسان. كما يتعين التأكيد أيضاً أن الجماهير المسلمة لها حق التعبير عن رأيها بصدد فيلم سينمائي والتعبير عن غضبها مما جاء فيه والدعوة إلى مقاطعته مثلاً..
إلا أننا نسجل بالمقابل أن أسلوبنا في الاحتجاج على فيلم (براءة المسلمين)، شابته العديد من الاختلالات، منها على وجه الخصوص :
السماح لأنفسنا باستعمال العنف الذي ترتب عنه إهدار الحق في الحياة، (مقتل السفير الأمريكي ودبلوماسيين آخرين في ليبيا) والمس بسلامة الأشخاص، وترويع الأفراد، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، وخرق حرمة السفارات والقنصليات، وإحراق وإتلاف الأعلام والوثائق والمستندات والتجهيزات؛
استعمال التهديد السافر كرفع الأعلام السوداء وصور أسامة بلادن والسيوف والأسلحة البيضاء، ووضع شعارات داعية إلى مقاتلة "الآخر"، إلى درجة أن وجوها قيادية في حركات إسلامية معروفة لم تجد حرجاً في القول علنا بأننا "سنقطع يد وعنق ونريق دم كل من يتطاول على نبينا الكريم"؛
انتهاج منطق التعميم بتحميل المسؤولية إلى دولة بكاملها أو إلى ديانة أو ديانات أخرى أو إلى مجتمعات أخرى أو إلى "الغرب" أو إلى مؤسسات.
عندما يرتكب مسلم أو جماعة من المسلمين أعمالاً إرهابية، نسارع إلى نفي أية علاقة بين تلك الأعمال وبين الإسلام أو المجتمعات أو الدول الإسلامية والقول أن الأمر يتعلق بتصرفات أفراد. وعندما تُرتكب إساءة إلى الإسلام في "الغرب" أو من طرف أحد "الغربيين"، نوسع دائرة الاتهام إلى أقصى مدى ممكن، فنتهم الغرب كله بالتآمر أو دولاً بكاملها أو مجموعات إثنية أو دينية بكاملها؛ فما معنى تحميل الدولة الأمريكية ككل وزر إنتاج الفيلم المسيء للإسلام بدون دليل، بينما هي لم تنتج الفيلم ولا أمرت به ولم تمنحه دعما خاصاً؟ وما معنى أن نطالب بمقاطعة البضائع الأمريكية بسبب فيلم أُنتج في أمريكا؟ وما معنى أن نتهم كل هوليود دفعة واحدة؟ وما معنى أن تُرفع لافتات في مظاهرات المغرب تنسب الفعل إلى "أبناء الخنازير" وتتوعد اليهود بعودة جيش محمد؟ !.
الافتراض التلقائي للمؤامرة. لم يعد رفع شعار المؤامرة عندنا محتاجًا إلى ذرة واحدة من التفكير أو التمحيص أو البحث. أصبح هذا الشعار آلية ميكانيكية وجوابًا غريزيا؛
استمرار الاحتجاج، وأحيانًا تزايده واتقاده، رغم حصول اعتذار أو عمل كافٍ لرد الأمور إلى نصابها وإنصافنا. حدث ذلك بمناسبة قضية الرسوم المسيئة واليوم بمناسبة الفيلم. الإدارة الأمريكية أكدت أن لا علاقة لها بالفيلم وأنها ترفض مضمونه ورسالته وتعتبره مثيرًا للاشمئزاز ويستوجب اللوم، وترى أنه يشوه سمعة دين عظيم ويثير الغضب. ومع ذلك تواصلت المظاهرات، مما يوحي ربما بأن التظاهر "دفاعًا" عن الإسلام والنبي محمد (صلعم)، يمثل حاجة نفسية مسبقة لا تنتظر سوى الإشارة؛
"التكليف بمستحيل"، أي مطالبة الآخرين بمناسبة صدور العمل المسيء، باتخاذ قرارات تخالف منظومتهم القانونية وتتعارض مع استقلال القضاء ومبدأ أن لا جريمة ولا عقاب إلا بنص. نحن نملي على السلطات العامة في البلدان الغربية أن تتصرف وفق تقاليدنا ومقاربتنا الخاصة لإدارة شؤون الدولة ووفق معاييرنا في تسيير قطاعي السينما والإعلام والحكم على المواد المنشورة عبرهما. والمنطقي أن نبحث عن طرق للتحرك داخل مربع المُشْتَرَكِ الحقوقي والثقافي.
هذه الاختلالات في "الرد"، لم تأت عفواً، إنها نتاج عمل سياسي احترافي وحسابات استراتيجية لأطراف متعددة وطرق في التثقيف والتوجيه متأصلة وثابتة :
هناك تيارات سياسية بنت مشروعية وجودها على وظيفة التصدي لأعداء الإسلام، وتريد أن تثبت لشعوبها في كل لحظة أنها الأكثر دفاعاً عن الإسلام والأكثر تعبيراً عن هوية تلك الشعوب، وأن مرجعيات بقية التيارات دخيلة وتغريبية ومستلبة. وفي ظروف خاصة، تصبح محاولة إبراز تلك الوظيفة أكثر إلحاحاً. فالبعض في المغرب مثلاً اعتبر أننا نعيش في خضم الاحتجاج على الفيلم المسيء إلى الرسول، مرحلة (غضب إسلامي)، أعقبت مرحلة (الربيع العربي)، أي أننا أمام ثورة ثانية يريد بها هذا البعض ربما تدارك ضعف حضوره في الثورة الأولى، واعتبر أيضاً أن المظاهرات الجارية (تؤكد بها الأمة انتماءها الحقيقي الذي حاولت بعض النخب تزييفه باسم الحداثة والعلمنة). المظاهرات بهذا المعنى رد على الحداثيين المحليين ورسالة موجهة إليهم قبل أن تكون ردًّا على الفيلم. والإخوان المسلمون في مصر يريدون اليوم إثبات أنهم لازالوا بخير – في زمن الحديث عن تراجع شعبيتهم – وأنهم لازالوا قادرين على تعبئة شعب مصر وأنهم ضمير مصر. والسلفيون يبتغون إثبات الوجود في مرحلة ما بعد الربيع حتى لا يحيلهم هذا الأخير على الهامش. ومن السهل أن نفهم لماذا كان حسن نصر الله في أشد لحظات الاندفاع والحماسة وهو يتحدث عن الفيلم، لأن الرجل يوجد، سياسياً، في حالة ضعف، بسبب دفاعه عن النظام السوري في لحظة تقتيل هذا الأخير لشعبه؛
هناك خطاب سائد لدى حركات سياسية بعينها حول وجود مؤامرة دائمة على الإسلام. هذا الخطاب يُوَلِّدُ لدى عدد من الفئات الشعبية استعداداً دائماً لاعتبار أي نوع من أنواع الإساءات التي تلحق ديننا فصلاً من فصول تلك المؤامرة. هناك، حقا، يمين متطرف في العالم يرى أن الإسلام يمثل "مشكلة"، ولكن مصالح ورهانات المجتمعات والدول في عمومها لا ترى مبرراً لمسايرة هذه الرؤية أو وضع العالم الغربي تحت رحمتها؛
هناك تغييب متعمد في مناهج تعليم أبنائنا لمعطى في غاية الأهمية، وهو أن ما يجمع بين كل الديانات السماوية هو أكبر بكثير مما يفرقها؛
هناك درجة من الاستعلاء والانغلاق في تلقين تاريخنا لأبنائنا؛ فنحن، مثلاً، نتجاهل كون الحضارة العربية الإسلامية، كأية حضارة أخرى، ارتكبت في أوج قوتها، أخطاء في حق الآخرين، وأن أحداث 11 شتنبر، بقدر ما دفعت الكثيرين عبر العالم إلى الاهتمام بالإسلام ومحاولة التعرف عليه، فإنها دفعت بآخرين إلى الخوف من الإسلام بدون أن تكون لهم أحقاد أو حسابات.
هناك حديث مستمر عن كون الغرب يمثل وحدة متجانسة، لا هَمَّ لها سوى التخطيط لإيذائنا. كم من أبنائنا، مثلاً، يعرف أن أحد كبار مفكري أمريكا اليوم وهو نعوم تشومسكي يساند قضايانا، وهو من أصل يهودي؛
هناك إغفال مقصود في وسائل اتصالنا لكون الإسلام هو الديانة التي تتقدم عددياً بإيقاع أكبر، وكون ذلك لا يعود إليها وحدها، بل أيضاً إلى تقاليد الحرية القائمة في البلدان الغربية، والتي يريد جزء من اليمين المحافظ والأصولي، هناك، الحد منها؛
هناك تَبَرُّمٌ لدينا من الآثار السلبية للعولمة على الخصوصيات الثقافية ومن محاولات التنميط القسري، ولكننا لا نعي بالقدر الكافي ما ينشأ داخل العولمة نفسها من تيارات تبشر بعولمة بديلة تحفظ حقوق الشعوب المستضعفة.
وأخيراً نلاحظ أن التعبير عن محبتنا لخاتم الأنبياء والمرسلين يجري في الكثير من الأحيان بطرق سلبية، ألم يحن بعد موعد تغليب طريق للتعبير عن هذه المحبة، يتجاوب مع الدعوة المحمدية الرائدة إلى تبني أولوية العلم والعمل؟