أيكس ليبان" والوضع العام
في نظري المتواضع، ملف "إيكس ليبان" أو محادثات ايكس ليبان، يكاد العديد من الذين يتحدثون عنه، لا يدركون أبعاده المختلفة إلا انطلاقا من كلام يلتقط من هنا وهناك.
أحيانا تصل الخفة ببعضهم إلى حد اعتبار تلك المحادثات من فتح مصراعي باب الاستقلال، وهناك... وهناك...
اعتقد أن من أراد أن ينور نفسه حول جزء من هذا الموضوع، ما عليه، في البدء، إلا بمذكرات المقيم العام آنذاك كرانفال. طبعا لن يجد كل ضالته فيها، لكن على الأقل سيجد مفتاحا أو مفاتيح لولوج دهاليز أخرى، إلى جانب مذكرات ادكارفور رئيس الحكومة الفرنسية وكتابات مجموعة من الوطنيين المغاربة.
تصور معي أن هذه المحادثات لم تغر المقيم العام بحضورها رغم إلحاح رئيس الحكومة الفرنسية. تصور معي أن المقيم العام كرنفال كان ضد "ايكس ليبان". تصور معي أن الحكومة الفرنسية والقيادات العسكرية كانت منقسمة انقساما إزاء "ايكس ليبان". رئيس الحكومة يدعو لإعادة محمد الخامس إلى عرشه. الجنرال كوينغ وزير الدفاع يصر على بقاء الوضع على ما هو عليه. العديد من الوزراء لهم موقف وسط، ويفضلون حلا توفيقيا وفق ماذكره عبد الهادي بوطالب في كتابه : ذكريات... شهادات... ووجوه، الجزء الثاني ص 569.
الذين استدعوا من المغاربة على اختلاف اصطفافاتهم، وتوجهاتهم، وحساسياتهم، ليسوا في وضع أحسن من الحكومة الفرنسية. هذه الحكومة، نقتصر عليها، دون العودة إلى مختلف التوجهات للرأي العام الفرنسي داخل الميتروبول، وفي وسط الحضور الفرنسي بالمغرب.
الارتباك سيد الموقف
يبدو أن "ايكس ليبان' جاءت في ظروف معقدة جدا بالنسبة لفرنسا وكل من يعنيه الأمر، لذا كانت المحادثات التي جرت في ظروف لا تسمح باستشفاف الأحداث، إنما كان يمهد بها لأمر ما، وسيتضح، أو يراد بها مواجهة الظروف العصيبة التي كان يشهدها المغرب في ذلك الصيف المحموم من سنة 1955.
- الأنباء تتواتر عن بناء حركة مسلحة في مناطق مغربية (جيش التحرير).
- ضربات المقاومة في المدن مزعجة رغم القمع المسلط.
- أخبار عن اتصالات لبناء قوة مسلحة ثورية بشمال إفريقيا بدعم من المشرق.
وحينما نقول المشرق أو الشرق الأوسط لا نستثني وجود تدخل ما للمعسكر الاشتراكي، ولما لا لبعض التنظيمات الإسلامية الخجولة...
- فرنسا وإسبانيا القوتان الاستعماريتان يطبع علاقتهما بعض النفور لأسباب تاريخية مرتبطة بالحرب الكبرى، وتقسيم المغرب على الخصوص.
- الذكرى الثانية لنفي الملك، جاءت وسط سحب داكنة، تنذر بعواصف حملت القلق والتخوفات للقوى الاستعمارية وأذنابها.
- قبل بداية "تجمع ايكس ليبان" أثارت أحداث واد زم، وخريبكة والنواحي، وخنيفرة، وغيرها من المناطق (الجديدة، الخميسات، بعض المدن الكبرى بشكل ما...) زوبعة من التكهنات والهلع وسط الفرنسيين، الذين وصل بهم الأمر، إلى حد معاداتهم للمقيم العام، الذي اتهم من طرف متطرفي المعمرين بالتواطؤ مع الوطنيين، والتنازل لهم في بعض المجالات...
- المقيم العام كرانفال، في مذكراته، يقدم الوضع، في تلك الفترة، في حلة قاتمة لم يجد أمامها الا الفرار بجلده، بتقديم الاستقالة، والإصرار على تعجيل قبولها.
- وما أضفى على الجو رعبا وقتامة نشوب أحداث خطيرة بقسنطينة الجزائرية.
في هذه الأجواء سيعيش كرانفال لحظات مثيرة، وهو لم يمر على تعيينه إلا حوالي شهر ونصف. نقول إن إلقاء نظرة على صفحات مذكراته يقودنا إلى أن نعرف أن فرنسا وضعت نفسها في موقف حرج وهي تستدعي جهات عديدة للقاء "ايكس ليبان". هذه الجهات على تعددها وكثرتها، واختلاف رؤاها ومقاصدها، لا أعتقد أنها فهمت مغزى حضورها، أوإحضارها، لاسيما وأن الأوضاع في المغرب كانت تشهد توترا كبيرا، ولا يمكن أن نفسرها اليوم إلا بتزامن مع بدايات الكفاح ضد المستعمر في مناطق كانت تعتبرها فرنسا لا تشكل خطورة تذكر.
منعرجات الطريق إلى متاهة ايكس ليبان
أواخر سنة 1954، وأوائل 1955، كانت المناطق القريبة والبعيدة في الأطلسين المتوسط والكبير مسرحا لوضع اليد على العديد من الخلايا التي كانت تستعد لانطلاق عمليات ج ت بالأطلس، وها نحن على بعد بضعة أشهر، نجد أن سهول وهضاب الفوسفاط بنواحي خريبكة ومعها خنيفرة، تشهد مواجهات مع القوات الفرنسية، واطرها، أودت بأرواح العشرات وسط الفرنسيين وبالمئات وسط الأهالي... هل يمكن للمرء المتتبع أن يهنأ له بال على مدى الشهور القادمة؟ حتى كرنفال حينما تقرأه لا تجد لديه إلا ما يوحي بالأخطار القادمة.
يقول كرانفال: "إن الحكومة الفرنسية مستغرقة في البحث عن مخرج توفيقي لها (مشكل العرش)، ملوحة بدون تأكيد قاطع، بأنها تنوي توجيه الدعوة إلى اجتماع مكبر يعقد بفرنسا للاستماع إلى وجهات نظر الفرقاء المغاربة والفرنسيين في موضوع العرش للاستئناس حوله، بجميع الآراء للوصول عن طريق الحوار إلى حل وسط بشأنه". (ص56).
وهو من كان ضد "تجمع إيكس ليبان، كما كانت تريد حكومته أن يتم بين فرقاء متشاكسين، ولم يكن قد نضج للتفكير في إرجاع السلطان إلى عرشه". (ص 569).
لقد كانت الخلافات تنخر قادة فرنسا مدنيين وعسكريين حول الوضع بالمغرب (569).
والمثير في كل هذا أن اللجنة الوزارية الفرنسية الخماسية بنزاعاتها العديدة هي من سيدعو إلى تجمع ايكس ليبان، هذه اللجنة مثلت إلى حد ما التجاذبات المختلفة وسط الحكومة.
ورغم هذا فسيأتي من يتحدث عن كون هذا التجمع، هو من سيقرر في مستقبل العلاقات المغربية الفرنسية. هذا الادعاء كان في نظري للتغطية على التخبط الذي وجدت فيه فرنسا نفسها، وهي تتهيأ أو توهم نفسها أنها تستعد لحل مشكل المغرب، الذي بات يؤرقها لعدة عوامل لا سيما منها الضغوط المطروحة في الساحة، والتي يشتم أنها ستأتي... وهل المخابرات العسكرية والمدنية كانت لا تشم رائحة ما يجري في الكواليس من إعداد لجيش التحرير، في هذا الإبان الذي كانت فيه الحرب التحريرية بالجارة الشرقية تشتعل هنا وهناك؟
دون شك، ما تقرره الحكومة يبقى عملا ظاهريا، أما الإجراءات الحاسمة فكانت تدرس وتهيأ وسط المكاتب السرية على يد المخابرات ورجال المال والصناعة ورؤساء كبريات الشركات... الأمر ليس شأن ظرفية، بل يتعدى إلى رسم الخطوط العريضة والثابتة لكل مصالح فرنسا على المدى البعيد الأبعد.