يعشق السيناريست المخرج السينمائي المغربي محمد البدوي البحر منذ طفولته التي قضاها في قرية نواحي مدينة الحسيمة، حيث كان يتأمل عظمته، ويراقب كل يوم كيف يقود مجرى نهر صغير، المياه العذبة إلى الاختلاط بمياه البحر المالحة، ويتساءل لماذا لا يحدث العكس، ويصب البحر مياهه في النهر الذي هو أقل شأنا منه وأصغر.
ويحكي ليابلادي قائلا: "كنت أشعر بأني مختلف عن أقراني، كنت منعزلا، وكنت أتأمل الطبيعة كثيرا، وكانت تخلق لي انشغالا دائما، كنت فيلسوفا صغيرا !".
والبدوي من مواليد سنة 1979 قرب الحسيمة، لأسرة متواضعة الحال، توفي والده وهو في سن السادسة، وتصادف ذلك مع دخوله إلى المدرسة، وأجبرته الظروف على الاشتغال آنذاك كي يوفر المال الذي سيمكنه من متابعة دراسته.
"في سن الرابعة عشرة قرر إخوتي الذين كانوا يتواجدون في هولندا، أن أهاجر معهم وبقيت هناك تقريبا عشر سنوات، وبعد ذلك قررت التوجه إلى إسبانيا التي كان يقيم بها أبناء عمي، وقررت الاستقرار بها، وهناك الآن عندي أسرة وابنة صغيرة".
وفي إسبانيا بدأ يتلمس خطوات مساره الأولى، وبدأ يعمل في مطعم بمدريد ليلا، ويدرس "تصميم الغرافيك" نهارا، إثر ذلك انتقل إلى العمل في شركة متخصصة في تصميم المواقع الإلكترونية على مختلف أنواعها، وما لبث أن عاد إلى الاشتغال في المطعم ليلا، كي يتسنى له متابعة دراسته في تخصص التوضيب والمؤثرات الخاصة.
وبعد حصوله على الدبلوم، وجد فرصه للعمل في شركة الطيران الإسبانية "إيبيريا"، ويشير إلى أنه كان يقدم لها ثلاثة أشرطة فيديو شهريا، ولمدة خمس سنوات ما سمح له بجمع قدر محترم من المال.
"بعد ذلك بدأت في دراسة السينما، أي كتابة السيناريو والإخراج والإنتاج، وشرعت في القيام بتداريب في تصوير الأفلام، وكتبت السيناريو الأول لكني فشلت في إيصاله إلى الشاشة، لأنني لم أجد منتجا، فلا أحد يمكنه الوثوق في شخص بالكاد بدأ في عالم الفن السابع، لم أستسلم وكتبت السيناريو الثاني وقررت أن أمول أول فيلم لي بنفسي بما كنت قد جمعته من العمل مع شركة الطيران، وهكذا عدت إلى المغرب من أجل تصوير فيلمي الأول والذي حمل اسم "سليمان"، والذي رأى النور سنة 2012".
واختار البدوي مدينة الحسيمة لتصوير فيلمه الأول الذي يحكي معاناة طفل مع مرض السرطان المتفشي في منطقة الريف، ويؤكد أنه قرر ذلك "لأنني ابن المنطقة وهي منطقة سينمائية، ومحتاجة لتنمية ثقافية"، ويؤكد أنه كان "أول من صور فيلما سينمائيا محترفا في المنطقة شارك في مهرجان سينمائي من مستوى دولي، وبعد ذلك تم تصوير أفلام أخرى".
ويحكي أنه "بعدما أثنى النقاد والمختصصين في السينما على الفيلم، ومر في مهرجان القاهرة درجة أولى، وفي مهرجان الأرجنتين والدومينيكان وهولندا، التقيت منتجا إسبانيا في مهرجان "كان" وطلب مني إخراج فيلم جديد، ووافق بعد قراءة السيناريو، وهذا الفيلم هو "فلسطين" الذي بدأنا في تصويره سنة 2016".
وكان من المقرر أن يتم تصوير الفيلم في الخليل بفلسطين، لكن البدوي استطاع أن يقنع المنتج بتصويره في المغرب، ولكي يتم منح هذا العمل السينمائي طابعا واقعيا اقتصر البدوي على تصوير مشاهد قليلة في الخليل بعد ان اصطحب معه فريقا صغيرا.
"يناقش الفيلم القضية الفلسطينية بوجهة نظر محايدة ومتسامحة، يتحدث عن العلاقات بين الناس خارج الحدود السياسية أو الإيديولوجية أو الدينية، يتحدث عن علاقة الإنسان بالإنسان سواء أكان فلسطيني بإسرائيلي أو فلسطيني بفلسطيني، وتتوفر فيه جميع مكونات السينما الاحترافية".
وعلى غرار فيلم سليمان، استقبل فيلم "فلسطين" بالإشادة من طرف المهتمين بالسينما، ودعي إلى مهرجانات كبيرة، لكن البدوي كان متخوفا من عرضه في المغرب، وكان يخشى من أن يتم رفضه نظرا لطبيعة معالجته للقضية الفلسطينية، ويحكي ذلك قائلا : "كنت متخوفا من أن لا يتقبله المغاربة، نظرا لنظرتهم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والفيلم يتكلم عن التعايش، ولكن عند عرضه في مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف، كانت قاعة محمد الخامس مملوءة عن آخرها، وكانت الأصداء جد إيجابية".
وبالموازاة مع تصوير فيلم فلسطين كان البدوي يكتب سيناريو فيلم "لالة عيشة" الذي يناقش احداث وهموم منطقة الريف كغياب فرص الشغل والمعاناة مع قوارب الموت، وهو الفيلم الذي عرض للمرة الأولى في نسخة سنة 2019 من المهرجان الدولي للسينما بمدينة مراكش، ولعبت فيه دور البطولة الممثلة الاسبانية الشهيرة أنجيلينا مولينا.
"قمت بكاستينغ في شوارع وأسواق ومدارس الريف، لاختيار الممثلين الذين سيشاركون في الفيلم، نظرا لأنه في المنطقة لا توجد ثقافة سينمائية. لكنني وجدت مواهب تحتاج إلى المساعدة فقط".
وأكد أن فيلمه "له دور اجتماعي، كما أنه يحاول أن ينمي منطقة الريف ثقافيا"، وعن تركيزه على منطقة الريف في أعماله كما هو الحال في فيلمه الأول "سليمان" قال "أنا أركز على المرأة بصفة عامة والمرأة الريفية مثلها كثمل جميع نساء المغرب، إن لم نتكلم عن المرأة عن طريق السينما فمن سيتكلم عنها، وهذا هو دور السينما".
وتتميز أعماله بوجود حوارات قليلة، كما تتميز بوجود قوي للبحر، الذي يعتبره شخصية محورية في أعماله، ويقول "أحاول أن أكون أكثر انفتاحا، فرغم وجود حوارات قليلة إلا أن عدة لغات تكون حاضرة: العربية الفرنسية الأمازيغية...، أحاول أن تكون أفلامي متعددة الثقافات، وأركز على الأحاسيس وليس على الحوارات".
ويؤكد أن الأهم بالنسبة له هي "الأحاسيس والعواطف التي تكون حاضرة بقوة في أعمالي التي غالبا ما تكون خالية من الحوارات، الحب هو الذي يمكننا من حل كل المشاكل، والحب ليس هو ما يتعلق بالجانب الرومنسي فقط، بل هو علاقة الانسان بالإنسان وعلاقته بالطبيعة وبنفسه..."..
ويؤكد المخرج والسيناريست المغربي أنه سيبقى وفيا لنهجه السينمائي والأهم بالنسبة له "هو الابداع، فيلمي الأول مولته بنفسي، وإن كان هناك ربح فهو أمر جيد وإن لم يكن فالمهم هو أنني قمت بما أحب. وأنا أظن أن هناك جمهور لكل شيء، هناك من يحب أفلام الحركة وهناك من يحب أفلام مثل أفلامي، وأنا أحترم طبعا جميع الأذواق".
أنهى حديثه للموقع بالتعبير عن فخره واعتزازه الكبيرين بمحبة سكان منطقة الريف له، وتقديرهم لأعماله وقال إنه يتمنى "لمشاكلهم أن تنتهي وأن يعيشوا في سعادة ورخاء".