دخل الوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي في خلوة طويلة، بعد تعيين الملك محمد السادس وزيرا أولا تقنوقراطيا، بدل إعادة تعيينه على رأس الحكومة أو تعيين شخص آخر من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي تصدر الانتخابات التشريعية لسنة 2002 على رأسها، وهو ما رأى فيه اليوسفي الذي كان آنذاك يشغل آنذاك منصب الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي خروجا عن المنهجية الديمقراطية.
وتحدث اليوسفي في مذكراته التي كتبها الحقوقي المغربي مبارك بودرقة، عن مرض ووفاة الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1999، وقال إن خبر نقل الحسن الثاني إلى المستشفى يوم الجمعة 23 يوليوز 1999، نزل عليه كالصاعقة "ففي الوقت الذي كنت أنتظر توجيهات جلالته لتنظيم أعمال الأسبوع، فإذا بي أسمع أنه نقل فجأة إلى المستشفى".
وتوجه اليوسفي بعد ذلك إلى مستشفى ابن سينا بالرباط، ويحكي أنه "وعند وصولي إليه توجهت مباشرة إلى الجناح الذي كان يرقد به الملك الراحل، لكن الأطباء كانوا يحظرون الدخول إلى الغرفة التي كان يتلقى فيها العلاج. كانت الأجواء جد مؤلمة، في ذلك الجناح، غير أنها كانت مفعمة بالإيمان والدعوات ليمد لله في عمر جلالته، على الرغم من أنه كان باديا على وجوه المقربين، الذين كانوا أكثر اطلاعا على الوضع، أن الأمور تطورت بسرعة لا تصدق. كان الجميع في حالة يرثى لها، وبعد العصر، نادى علي صاحب السمو، ولي العهد آنذاك، سيدي مـحمد، ليخبرني أن سيدنا في حالة صعبة جدا، ولم يتبق لنا إلا الدعاء له".
بعد ذلك يحكي اليوسفي أنه تلقى مكالمة ثانية من ولي العهد آنذاك ليخبره بوفاة الملك الحسن الثاني، وأمره "أن يتلى القرآن في وسائل الإعلام الرسمية، وأنه يُحَضّْرُ كلمة سيتوجه بها إلى الشعب المغربي".
ثم اتصل به مرة أخرى ليخبره بالترتيبات الأولية لإعداد مراسيم البيعة، والشروع بالتنسيق مع التشريفات الملكية في الاستعداد لاستقبال ضيوف المغرب، وتعبئة الهيأة الوزارية لاستقبالهم والترحيب بهم.
ويصف اليوسفي ذلك اليوم قائلا "لقد كان يوما من الصعب تحمله، خصوصا في تلك الساعات الطوال التي كانت مملوءة بالأمل، ومشحونة بنوع من الألم، حول هذا المصاب الجلل. كان شعورا مشتركا بالمأساة والحزن، وكانت تلك اللحظات تتطلب التجلد والصبر والرضا بقضاء لله".
بيعة حضارية
ثم انتقل اليوسفي في مذكراته إلى الحديث عن مراسيم البيعة، وقال إنه استحسن الطريقة التي تمت بها، لأنها بحسبه "كانت حضارية"، أدخلت نوعا من "الأبهة على مراسيمها، وأكسبتها وزنا قانونيا وشرعيا قويا، وهذا لا يعني بالضرورة أن البيعة لو تمت بالطريقة التقليدية، لكانت ستكون ذات مغزى سياسي أقل".
وأكد أنه عاش لحظة "اعتزاز تاريخية، لأنه كان لي الشرف أن أكون على رأس الموقعين على مرسوم البيعة بعد الأسرة الملكية، فهذه مفخرة لي ولحزبي ولحركتي. لقد كانت بالفعل لحظة تاريخية أخرى".
وتابع اليوسفي أنه التقى ولي العهد "الذي سيصبح الملك محمد السادس، يوم انتقال المغفور له الملك الحسن الثاني إلى جوار ربه، قبل أن يعلن النعي للشعب المغربي. وفي كل الجلسات التي جمعتني بالملك الجديد، سواء من خلال تقديم التعازي أو أثناء مراسيم البيعة والتحضير لجنازة الملك الراحل، وجدته رجلا صابرا، رغم الألم العميق الذي كان يعتصر فؤاده. كان يشعر بالمسؤولية الكبرى التي أصبحت ملقاة على عاتقه. كما التقيته أثناء مراسيم البيعة، وكانت رغبته أن أحضر معه العشاء الرسمي، لكني عدت إلى بيتي مباشرة بعد البيعة".
خروج عن المنهجية الديمقراطية
بعد ذلك تحدث اليوسفي في مذكراته عن الانتخابات الأولى التي جرت في عهد الملك محمد السادس، والتي فاز فيها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالمرتبة الأولى بعد حصوله على 50 مقعدا، وأكد أن "المغرب استطاع أن ينجز انتخابات نزيهة غير مطعون فيها".
وتابع أنه بمجرد الإعلان عن النتائج، التقى الملك مـحمد السادس، و"عرضت على صاحب الجلالة تقديم استقالتي من الوزارة الأولى، حتى يتمكن من تعيين الوزير الأول الذي سيتولى تدبير المرحلة القادمة، لأن جلالته يعلم رغبتي في إعفاء من الاستمرار في تحمل هذه المسؤولية.غير أن جلالته فضل عدم تقديم الاستقالة حاليا".
ويواصل اليوسفي سرد مذكراته قائلا "يوم الأربعاء 9 أكتوبر 2002، ترأس صاحب الجلالة مـحمد السادس مجلسا وزاريا بمدينة مراكش، وكان آخر مجلس وزاري لحكومة التناوب التوافقي. بعد ذلك المجلس استقبلني جلالته، وأثنى على المجهودات التي بذلتها خلال الفترة الزمنية التي قضيتها على رأس الوزارة الاولى، سواء في عهد والده المرحوم الملك الحسن الثاني، أو خلال العهد الجديد، بالرغم من الحالة الصحية التي لم تحل دون إنجاز العديد من المشاريع الكبرى التي شهدها المغرب خلال هذه الفترة".
وبعد المجلس استقبله الملك وخاطبه قائلا "وفي العديد من المرات عبرت عن رغبتك في إعفاءك من هذه المسؤولية، نظرا لظروفك الصحية، وقد قررت تعيين ادريس جطو على رأس الوزارة الأولى".
وواصل اليوسفي حديثه قائلا "شكرت جلالته على تلبية هذه الرغبة، وعبرت له أن الدستور الحالي (1996) يمنحه حق تعيين من يشاء كوزير أول، ولكن المنهجية الديمقراطية تقضي بتعيين الوزير الأول، من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية، كما أسفرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة وهو حزب الاتحاد".
وأكد اليوسفي أن حبل التواصل بينه وبين الملك محمد السادس ظل مستمرا إلى غاية كتابة هذه المذكرات، "حتى عندما قدمت استقالة الاعتزال نهائيا من الحزب والنشاط السياسي، حيث بعث لي جلالته برسالة شخصية عبر فيها عن مشاعره تجاه ما أسديته لبلادي طيلة مساري السياسي. كما كان يستدعيني كلما سمحت الظروف للمشاركة في أفراح العائلة الملكية، أو بعض اللقاءات الرسمية أو مع بعض الرؤساء أو الأصدقاء المشتركين، وفي بعض الحالات مع عائلته الصغيرة".
وأضاف أن الملك محمد السادس عرض عليه "القيام ببعض المهام من حين لآخر، وكان يلح أن لا يكون لي أي حرج في قبول هذه المهام والاعتذار عنها، كما حدث مثلا في نهايته سنة 2003 عندما عرض علي تحمل رئاسة هيئة الإنصاف والمصالحة، وأنه يترك لي الرد بما يريحني".