رغم تمكن المرابطين من وضع حد للتواجد الشيعي في المغرب، بقضائهم على إمارة الشيعة البجلية في سوس، إلا أن أفكار هذا المذهب بقيت موجودة في البلاد، إلى أن جاء المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية حيث اعتمد في إقامة دولته على بعض أركان التشيع كالإمامة والعصمة.
ويعود الفضل في قيام الدولة الموحدية إلى محمد بن تومرت، الذي اشتهر باسم المهدي بن تومرت، حيث أطلق سنة 1118م الدعوة لمحاربة المرابطين واتخذ من قلعة تنمل على جبال الأطلس الكبير مقرا له. وبعد وفاته تمكن تلميذه عبد المؤمن الكومي من بسط حكمه على المغرب الأقصى والأوسط حيث دخل مراكش عام 1146 وقضى على المرابطين، ومن ثم انطلق إلى إفريقية. وبعدما استتب له الأمر إتجه إلى الأندلس وعمل على تقويتها وصد هجمات القشتاليين عنها.
وطبعت دولة اللموحدين بلاد المغرب والأندلس بطابعها الخاص لعدة قرون، وتركت فيه آثارها الباقية حتى اليوم. ويكفي للمرء أن يزور جامع الكتبية بمراكش، وصومعة حسان في الرباط، وصومعة جامع إشبيلية بإسبانيا المعروفة حاليا باسم الجيرالدا...
لكن رغم ما وصلت إليه دولة الموحدين من قوة وعظمة، إلا أن الجدل بقي مستمرا حول مؤسسها الفعلي المهدي بن تومرت، حيث حاول البعض نسبته إلى الشيعة، فيما رأى البعض الآخر أنه كان سببا في انتشار المذهب المالكي في بلاد المغرب الأقصى.
من هو ابن تومرت؟
تلقى بن تومرت العلوم الشرعية في قرطبة بالأندلس عام 501هـ، ثم توجه إلى مصر والحجاز والعراق، واستمرت رحلته أربعة سنوات، ثم عاد إلى المغرب محملا ببعض أفكار المذاهب المنتشرة في المشرق، وكفر حكام المرابطين واستحل دماءهم ودعا إلى إسقاط حكمهم.
واعتمد بن تومرت في مشروعه السياسي على تصورات عقدية مختلفة، فقد وافق الخوارج في مسائل التكفير بالذنوب والمعاصي وفي حكم الخروج على الأئمة بالجور والظلم، بحسب ما جاء في كتاب "الدعوة الموحدية"، لصاحبه عبد الله علام، كما وافق الشيعة الإمامية في ادعائه بأنه المهدي والقول بعصمة الإمام المهدي وجعل الإمامة أهم مسائل الدين، ووافق الأشعرية في باب الأسماء والصفات بحسب ما يؤكد عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب"، كما وافق المعتزلة في مسألة التكليف بما لا يطاق بحسب ما أورده عبد المجيد النجار في كتابه "المهدي بن تومرت حياته وآراؤه وثورته الفكرية والإجتماعية وأثره بالمغرب".
وبعدما تمكن ابن تومرت من جمع الكثير من الأنصار والأتباع الذين اقتنعوا بدعوته وانخرطوا بسرعة في حركته، بدأ يمهد لإعلان نفسه "المهدي المنتظر"، وذلك عبر إذاعة ونشر أحاديث المهدي وأوصافه، كما أنه ادعى أنه علوي النسب، وأنه من سلالة أبناء الحسن بن علي بن أبي طالب، كما يؤكد كتاب "المقتبس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب" لأبي بكر الصنهاجي.
المهدي المنتظر
وجاء في خطبة ابن تومرت في ادعائه المهدية، بحسب ما يورد كتاب "نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان" لابن القطان المراكشي:
الحمد لله الفعّال لما يريد، القاضي بما يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وصلى الله على سيدنا محمد المبشر بالمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا، يبعثه الله إذا نسخَ الحقّ بالباطل، وأزيل العدل بالجور، مكانه المغرب الأقصى وزمنه آخر الزمان، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبُه نسب النبي صلى الله تعالى وملائكته الكرام المقربون عليه وسلم، وقد ظهر جور الأمراء، وامتلأت الأرض بالفساد، وهذا آخر الزمان، والاسم الاسم، والنسب النسب، والفعل الفعل.
ويمكن اعتبار اليوم الذي أعلن فيه ابن تومرت أنه المهدي المنتظر يوما فاصلاً في تاريخ الموحدين والمغرب الإسلامي عموما، فمنذ ذلك اليوم ارتدى ابن تومرت الثوب الروحي لكسب تأييد القبائل في محاربة المرابطين.
وهكذا فقد كتب الحافظ إبراهيم بن موسى الشاطبي في كتابه "الاعتصام في أهل البدع والضلالات" أن ابن تومرت "أحدث في دين الله أحداثا كثيرة زيادة إلى الإقرار بأنه المهدي المعلوم والتخصيص بالعصمة، ثم وضع ذلك في الخطب وضرب في السكك، بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة فمن لم يؤمن بها أو شك فيها فهو كافر كسائر الكفار..".
هل كان ابن تومرت شيعيا؟
جاء في المجلد الرابع من "موسوعة تاريخ إفريقيا العام"، الذي نشرته اللجنة العلمية الدولية لتحرير تاريخ افريقيا التابعة لليونسكو "وثمة عنصر من مقومات مذهب ابن تومرت يختلف اختلافا واضحا عن مواقف أهل السنة وهو الإيمان بالمهدي (أي الإمام المعصوم) الذي يهديه الله سواء السبيل. والأقوال المأثورة المتعلقة بالمهدي ترجع تاريخيا إلى عهد الرسول الذي تنسب إليه أحاديث تنبئ بظهور المصلح المنقذ ويكون من سلالة الرسول، وعند أهل السنة المهدي لا يظهر إلا قبيل الساعة، فيعيد الناس إلى الدين الحق ويطبق أحكامه. أما عند الشيعة فهو إمام محتجب يسيطر من جديد ويحكم بنفسة وبتفويض إلهي، وكان الإيمان بمجيء المهدي منتشرا بين الطبقات الشعبية، لأنه كان يرمز إلى العدل...
لقد جعل ابن تومرت مهمته تالية مباشرة لموت علي ابن أبي طالب، فمن الواجب إذن طاعته طاعة عمياء في أمور الدنيا والدين والاقتداء به في جميع أفعاله، وقبول أحكامه وتفويض الأمر إليه في كل شيء. وطاعة المهدي من طاعة الرسول لسبب بسيط، هو أن المهدي خير الناس معرفة بالله ورسوله".
فيما جاء في المجلد العاشر من موسوعة دائرة المعارف الاسلامية الشيعية لصاحبها المؤرخ اللبناني الشيعي حسن الأمين أن:
"دولة الموحدين هي دولة نشأت أول أمرها في المغرب ووصلت حدودها من طرابلس شرقاً إلى مشارف المحيط الأطلسي ومن لشبونة إلى السنغال، ثم امتدت في الأندلس وقد قامت على أسس شيعية، ويمكن القول إنها كانت على منهج خاص بها يمكن مماثلته بالمنهج الزيدي أو الفاطمي".
فيما يذكر كتاب سير أعلام النبلاء هو كتاب في علم التراجم ألفه الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذهبي "وألف لهم (ابن تومرت) كتاب (اعز ما يطلب) ووافق المعتزلة في شيء، والأشعرية في شيء، وكان فيه تشيع".
وجاء في مقال تحت عنوان "الحضارة الموحدية .. شمس الإسلام تشرق على الغرب"، منشور على موقع "شبكة النبأ المعلوماتية"، التي تتخذ من مدينة كربلاء العراقية (المقدسة عنذ الشيعة) مقرا لها، "إن الثورة الفكرية والعلمية التي أحدثها محمد بن تومرت على الواقع المزري والفاسد كانت إصلاحية شاملة ضمت كل مجالات الحياة الدينية والدنيوية ودعت إلى الرجوع للإسلام الحق المتمثل بأهل البيت عليهم السلام" أي الإسلام الشيعي.
وانتقدت الشبكة العراقية الكاتب والمؤرخ والباحث المغربي محمد بن تاويت التطواني، الذي قال في كتابه: "تاريخ التشريع الإسلامي" إنهم ــ أي الموحدين ــ "قالوا بالانطلاق والعتق والتحرر من كل قول وكل مذهب والاعتصام بالمنبع الأول الكتاب والسنة"، وأكدت أن "كل الأدلة والحقائق التاريخية تدل على أنهم أخذوا بمذهب التشيع، وقد جاء برأيه المخالف للحقيقة من خلال ما علق في ذهنه مما كتبه بعض الكتاب والمؤرخين الذين حادوا عن الحقائق وساروا بطريق الأهواء التي أملتها عليهم السياسة فأخرجوا دولة الموحدين من دائرة التشيع، ولكن الحقيقة يجب أن تظهر مهما حاول أعداؤها إخفائها".
نفس المصدر أضاف أن ابن تاويت لم يستطع "إنكار حقيقة تشيع الموحدين الجلي فقد ناقض نفسه بنفسه في محاولته إبعاد الفكر الموحدي عن الفكر الشيعي الأصيل القائل بأحقية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الخلافة بوصية الرسول وأحقية أولاده المعصومين (عليهم السلام) من بعده وهو أصل الفكر الموحدي".
بدوره يقول المؤرخ الليبي علي محمد الصلابي، في كتابه "دولة الموحدين"، "وهكذا نرى كيف أن القول بالعصمة للأئمة، أصبح اتجاهاً قوياً من اتجاهات دعوة ابن تومرت الفكرية، وقد تمكن من تأصيل هذا الأمر عند أتباعه، حتى أطلقوا عليه لقب المعصوم، وأصبح هذا اللقب من أشهر ألقاب ابن تومرت، لدرجة أنهم كانوا يطلقونه عليه دون ذكر لاسمه، بسبب اشتهاره به. وهو بهذا يوافق الشيعة الإمامية الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم. وهذا بلا شك انحراف عقدي خطير. بل لم يكتف بهذا الأمر حيث يأمر بقتل كل من يشك في عصمته، ولكي يؤصل هذا الادعاء الكاذب عند أتباعه، ألف لهم كتاب (أعز ما يطلب)، وأمر بقراءته، بل وحفظه، وهذا بلا شك مما أصل فكر - ابن تومرت - ومحبته في نفوس أصحابه".
ابن تومرت والمذهب المالكي
وعلى عكس القائلين بتشيع ابن تومرت ذهب لخضر محمد بولطيف في كتابه "فقهاء المالكية والتجربة السياسية الموحدية في الغرب الإسلامي"، إلى القول إن عددا من الباحيثين لا يترددون "في إثبات الانتماء المالكي لابن تومرت، بل منهم من يذهب إلى حد الجزم بأنه "نشأ مالكيا، وعاش مالكيا، ومات مالكيا".
ويضيف في نفس الكتاب أن أكثر المترجمين لابن تومرت يرون "أنه كان على مذهب ابي الحسن الأشعري (أحد أعلام أهل السنة والجماعة وإليه ينسب المذهب الأشعري) في أكثر المسائل، وينيطون به فضل نشر المذهب الأشعري ببلاد المغرب، وحمل أهله على الأخذ به".
فيما يقول سعد غراب في كتابه "مرشدة بن تومرت وأثرها في التفكير المغربي" إن "همزة الوصل التي كانت موجودة، ولم تنعدم أبدا بين الفكر التومرتي وفقهاء المالكية، هي المذهب الأشعري". من جانبه يقول عبد المجيد النجار في كتابه:"المهدي بن تومرت" "لما رجع ابن تومرت من رحلته إلى المشرق، قُدِّر له أن يكون الانتشار الأوسع للأشعرية بالمغرب على يديه، وأن يكون لتعاليمه الدور الحاسم في اعتناق كافة أهل المغرب لهذه العقيدة إلى هذا اليوم".
وقد أكد عبد الله كنون في كتابه "النبوغ المغربي" هذا الأمر كذلك فقال:
"ذلك أن أهل المغرب لعهد المهدي ورجوعه من رحلته المشرقية، كانوا إلا قليل منهم على مذهب السلف في الاعتقاد بظواهر النصوص والصفات الواردة فيها من غير تأويل ولا صرف لها عن مدلولها اللغوي، مع التنزيه للخالق عز وجل وذاته العلية عن أن تشبه الذوات وتتصف بصفات المخلوقين.. ولكن هذا المذهب لم ينتشر ويسُد على مذهب السلف إلا بعد قيام المهدي بدعوته التي جند لها جنوده وحمل الناس عليها بدون رفق ولا هوادة، وساعده على ذلك أنه كان قد انتشر في المشرق وأصبح المذهب السائد الذي هزم مذهب أهل الاعتزال على ما كان له من التمكن والسلطان".
وبين القائلين بكون المهدي بن تومرت كان شيعي المذهب، والذين يرون بأنه كان سنيا ساهم في نشر المذهب المالكي في المغرب، يرى آخرون أنه لم يكن من الفرقتين معا، وأنه خلق مذهبا جديدا.
فبين الاتجاهين يذهب الكاتب والأكاديمي المصري محمد حلمي عبد الوهاب، في مقال منشور في جريدة "الشرق الأوسط" إلى القول بأن ابن تومرت نجح في "توطين مذهب ديني جديد، هو مذهب التوحيد، مدونا إياه في كتابه المعروف بـ"العقيدة والمرشدة"، والذي يعرف أيضا باسم أعز ما يطلب". وأضاف محمد حلمي أن هذا المذهب:
"هو عبارة عن مزيج من الأفكار والاتجاهات الدينية التي كانت معروفة في عصره والتي وضعت بعضها إلى جانب بعض، وظهرت غير متجانسة في بعض الأحيان، بل ومتضاربة أحيانا أخرى! وهكذا استنادا إلى اسم المذهب، الذي اشتق منه عنوان الدولة فيما بعد، فإن الفكرة الرئيسية في مذهب ابن تومرت هي فكرة "التوحيد" التي أخذها عن المعتزلة".
وبحسب نفس الكاتب فإن ابن تومرت كان قاسيا في التعامل مع منكري مذهبه، وقام بتكفير من لا يتبعه "وهكذا سمى أعداءه السياسيين من المرابطين بـ"المجسمين"، والكفرة والمرتدين!".