المصيبة، بل الطامة الكبرى، هو أن هذا يحدث في دولة يحلو لها أن تقدم نفسها "كدولة الحق والقانون"، بل دولة تؤمن "بالحق في الإختلاف" و"حرية التعبير عن الرأي" في إطار "حقوق الإنسان". ما لا يقبل البتة وما لا تحمد عقباه هو السلوك المشين للجهات الرسمية اتجاه هذه الجريمة الواضحة المعالم ضد أبيضار. فالتشنيع التي ووجهت به الفنانة من طرف السلطات الأمنية المغربية، عندما حاولت تقديم شكاية لما تعرضت له، بل الإهانة الواضحة لكرامتها الأنطلوجية كمواطنة ذات حقوق وواجبات، يطرح علامة استفهام كبيرة على المسؤولية الأساسية للأمن الوطني المغربي، الذي –على الأقل نظريا- مسؤول عن أمن المواطنين دون تمييز ولا تحيز. أن يُرفض لمواطنة الحق في تقديم شكاية ضد الجناة، بل الإستهزاء بها والضحك على ذقنها، يوضح للعيان بأن الفرد المغربي لا يتمتع بأبسط الحقوق الأمنية، وعلى الجهات الأمنية الرسمية الكف عن إيهام الشعب بأنها في خدمته وتسحر على أمنه. لا يمكن السكوت عن مثل هذا السلوك البدائي في التعامل مع مواطنة جُلدت بما فيه الكفاية نفسيا ثم جرحت جسديا، لأن المقياس الحقيقي لتقدم دولة ما هو بالأساس نوعية ومستوى الأمن الموفر لشعبها وطريقة تعاملها مع المحافظة على حقوق الضعفاء والمعتدى عليهم.
أما السلطات الطبية المغربية، فأقل ما يمكن أن يقال عنها في هذه القضية هو أنها أكبر جانية على الفنانة، فكيف يعقل، بل كيف يقبل، ألا تتلقى معتدى عليها الإسعافات الضرورية وتضميم جروحها كحد أدنى من حق المواطنة؟ كيف تسمح السلطات الطبية المغربية لنفسها عدم مساعدة مواطنة طبيا، وهي مطالبة –نطريا على الأقل- تقديم هذه المساعدة، حتى ولو كان الأمر يتعلق بمجرم حقيقي، وما كانت أبيضار مجرمة ولا منتمية لخلية إرهابية.
أما مسؤولية الرأي العام، وبالخصوص الصحافة المكتوبة، فحدث ولا حرج. فحتى الجرائد المغربية التي عالجت الموضوع، لم تتعد عتبة قمطرته في خانة "الأخبار المتفرقة"، لم تجرأ أية جريدة، حسب علمنا وبعد أكثر من أسبوع على وقوع الحدث، تحليل القضية وأخذ موقف واضح منها، بل اكتفت بذكره ومرت مرار الكرام، وكأن لسان حالها يقول: "لكم كنا ننتظر هذا". من هذا الجانب، يمكن تسجيل التواطئ الواعي لوسائل الإعلام هذه ضد الفنانة، بل سباحتها العميقة في منطق اغتصاب العمل الفني الخلاق وكل ما يعتبر مرآة عاكسة لظواهر اجتماعية متغلغلة في النسيج الإجتماعي، يتفرج عليه الكل ولا يجرأ أي كان رفع صوته ضده، بل يهاجم كل من سولت له نفسه محاولة إزاحة الغطاء عليه بأية وسيلة كانت. فظاهرة البغاء معششة في المجتمع المغربي وأسبابه الإقتصادية والإجتماعية واضحة المعالم. والظاهر هو أنها ظاهرة مقبولة على المستوى اللاواعي من طرف الأغلبية الساحقة للشعب، وبالخصوص الرجال منهم، وكل من حاول جعله موضوعا للنقد يهاجم تحت ذرائع واهية، يختلط فيها "الأخلاقي" بـ "الديني"، ويسبح الجميع في نفاق جماعي، يعبر بالواضح عن مستوى الوعي الذي وصل إليه المجتمع.
إذا أخذنا قضية أبيضار كنموذج لمحاولة فهم درجة التطور التي وصلت إليها الدولة في المغرب، وتشدقها بمبادئ لا نعثر لها في الواقع على أي أثر، وبالخصوص مبدأ "الإختلاف" وضمان الحق فيه قانونيا، فإننا نصيب بالذهول، بل بالدوران، ونحن نعلم بأن حالات أخرى سبقت قضية أبيضار وتعرض فيها أصحابها لمثل ما تعرضت له أبيضار من الضغط النفسي، بل الإعتداء الفيزيقي، في مدن مغربية مختلفة. فقانون الغاب، بل سلوك رعاة البقر، مسموح به في القانون المغربي علانية أو ضمنا؛ بل "مبدأ تشريع قوانين" فوق القانون معمول بها. وبهذا أمكن القول بأن ما يطبق في المغرب حاليا، طبقا للأمثلة التي تتكرر بانتظام، هو أن "الخلاف" هو سيد الموقف وبأن الدولة عاجزة كلية على فرض "الإختلاف" بحد قوة القانون. تكمن روح الإختلاف في التباين في الرأي بين طرفين أو أكثر، بسبب اختلاف الوسائل النابع من تفاوت فهم الناس أو تباين مداركهم ومستوى ثقافتهم وتحمل مسؤولياتهم الشخصية والمجتمعية.
إذا كان "الإختلاف" قيمة أخلاقية ومجتمعية، ومؤشر مهم على مستوى نضج الأفراد والجماعات في أي مجتمع كان، فلأنه يشجع شعور الإنسان المفكر فيه والمسؤول بذاته واستقلاله في التفكير والسماح بالرغبة في التميز والتفرد، وهو ما يساعده على تكوين قناعات خاصة والقطيعة مع منطق القطيع. فالتفاوت في الفهم ناتج بالضرورة عن اختلاف مواهب الناس وتباين مهاراتهم وتنوع معارفهم وتفاوت قدراتهم الذهنية والوجدانية. وقد ميز الإسلام كمنظومة دينية-ثقافية بين الإختلاف المقبول والإختلاف المذموم، وشدد على أن هذا الأخير هو جحود وتعصب وخلاف يؤدي إلى الصراع. إضافة إلى هذا فالإختلاف الأول ناتج عن علم وبينة بموضوع الإختلاف، بينما يسبح النوع الثاني منه في جهل، ليس فقط بموضوع الإختلاف، بل بأحكام الدين. وهذا بالضبط ما نجده في قضية الفنانة أبيضار. فالخلاف مركز هنا على عدم السماح لها لعب دور في فيلم يتطرق لظاهرة لا يريد الكل أن تصبح موضوعا علنيا، على الرغم من وجودها الفعلي في المجتمع، بل وعي الناس بأن فتياة في سن الزهور ضحاياه، بتواطئ مع بائعي اللحوم البشرية والسكوت الجماعي عن سلوك الفاعلين في الميدان والمستفدين منه، وبالخصوص بعض الخليجيين وبالأخص السعوديين منهم، الذين لا يجدون أي حرج في المس بكرامة نساء مقابل حفنة من الدولارات، مستغلين أوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية المأساوية، لتفريغ مكبوتاتهم الجنسية وحرمانهم الوجداني والوجودي من بذرة الإنسانية.
أبيضار ليست الأولى ولا الأخيرة ممن يدفعن ثمن شجاعتهم الفنية ضريبة لشعب تغلغلت فيه الثنائيات الأخلاقية، يتغنى بالفضائل ويمارس في الواقع الفعلي الرذائل بكل أنواعها. شعب، كلما توهم المرء بأنه تقدم نسبيا في أخلاقياته وتنظيم الحياة العامة، كلما فاجئنا لاوعيه بمخزون وسخ، قذر، لا إنساني وموغل في الجهل والتخلف والأحكام المسبقة. شعب يقول عن نفسه بأنه ذكي، وقد يصح هذا إذا ما فهمنا هذا الذكاء تثمينا للغباء وروح الإنتقام والتدخل في الصغيرة والكبيرة تحت غطاء "الدود على الأخلاق العامة". حرية الخلق المبدع، الذي يحمل على عاتقه إزاحة الإزار على ظواهر تعرقل تقدم الفرد والشعب، هو قيمة أخلاقية وثقافية وحضارية، لم تنجح دولة المغرب في توفيرها، بل تعتبرها خطرا على "أمنها". وبهذا فلا مصداقية لدولة تبيع لنا الثنائيات الأخلاقية في المزاد العلني من تحت طاولة "حقوق الإنسان"، وتجند "ميلاشياتها" الظاهرة والخفية لتقوية "محاكم التفتيش" وحرق "الساحرات" في الساحة العمومية.