الحرب الإعلامية والمخابراتية التضليلية في خدمة الإمبريالية
توهمنا وسائل الإعلام الغربية، والأمريكية بالخصوص، بأن سبب المشكل السوري الحالي هو "قمع" النظام لمظاهرات سلمية قام بها سوريون قبل ما يناهز خمسة سنوات، أي في عز ما سمي بهتانا وزورا "الربيع العربي". والحقيقة التي لم تعد خفية هو أن رغبة أمريكا في إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط طبقا لما يساير مصالحها الإستراتيجية والإقتصادية، منذ الحرب الأولى على العراق، هو السبب الرئيس لما وصلت إليه سوريا. فقد خطط لمظاهرات "الربيع العربي" بأكملها في مطابخ المخابرات السرية، وأضحت الأنظمة العربية القديمة تتهاوى كقطع دومينو الواحدة تلو الأخرى، كانت آخرها ليبيا. وهنا بالضبط نلمس الموقف الروسي الحالي من أزمة سوريا: إضافة إلى الأهمية الإستراتيجية لهذه الأخيرة وكونها تأوي القاعدة الوحيدة العسكرية لروسيا خارج حدودها، فإنها قد خرجت من تحالفها ضد ليبيا بخفي حنين، بل وعت بأنها لم تكن إلا أداة في يد الغرب عامة وأمريكا بالخصوص. وقد افتعلت أزمة أوكرانيا "لإلهاء" روسيا. لكن بعد أربعة سنوات، وللمحافظة على مصالح دولته، دخل بوتين على الخط وأخذ بزمام الأمور في سوريا، جارا البساط من تحت أقدام أمريكا وأوروبا المتحدة التي أصيبت بصدمة حقيقية بعد تحرك مآة الآلاف من اللاجئين نحوها. وإذا كانت ألمانيا البلد المفضل عند الأغلبية الساحقة منهم، فهذا راجع إلى الدعاية الفارغة من أي محتوى للببروباغاندا الألمانية في كونها بلد حقوق الإنسان إلخ. لكن ألمانيا هي الدولة الأوروبية رقم واحد في تصدير الأسلحة إلى سوريا، ولا يهمها أية جهة نزاع تقتني هذه الأسلحة. من هذا المنطق، عندما يزرع المرء الزوابع، فلا غرابة في حصده للعواصف.
تُغْمِسُنا وسائل الإعلام الغربية في عوالم خيالية لأسباب اندلاع المشكل السوري، فهو مرة بسبب "ديكتاتورية" نظام الأسد، وأخرى لتعاظم النزاع الديني-العرقي في بلاد الشام وتصد لخطر إرهاب "الدولة الإسلامية". وبهذا الصدد يجمع الخبراء الأكفاء، بأن داعش هو منتوج أمريكي المأة بالمأة، وإذا لم نكن بحاجة لتقديم بعض وجهات النظر في هذا الإطار لمختصين اعتمدوا في تحاليلهم على معطيات المخابرات السرية، فإننا نحيل إلى كتاب هيلاري كلينتن نفسها:"Hard Choices"، حيث نكتشف الطريقة التي تشتغل بها السياسة الخارجية والحربية الأمريكية ومدى رغبتها في الحفاظ على تفردها بموقع الصدارة في العالم، الذي يتيح لها السيطرة الأحادية الجانب على العالم. ومن المفيد ذكر ما قاله اليساري الألماني أوسكار لافونطين Oskar Lafontaine يوم الخميس 29 أكتوبر 2015 في إطار مناقشة في التلفزة الألمانية ZDF حول اللاجئين السوريين: "على الولايات المتحدة الأمريكية أن تكف عن إبدال الحكومات التي لا تعجبها ..."، مضيفا: "إن الدولة الإسلامية هي نتيجة السياسة الأمريكية". لا داعي لذكر الدور الخطير الذي لعبته أمريكا في شخص جون ماك كاين John Mccain قبيل الحرب في سوريا واتصاله بكل الفرقاء في عين المكان، كل على حذى، للنتسيق لبداية عمليات نسف سوريا ونخرها من الداخل، طبقا للمصالح الأمريكية.
الصراع على الطاقة والمنافذ التجارية والحرب
ما يمكن قوله بالجزم هو أن السبب الرئيس للنزاع حول سوريا هو سبب اقتصادي بالدرجة الأولى. فإذا كانت إيران، وإلى جانب الأسباب الجيو-استراتيجية ولربما العقائدية حاضرة بقوة في هذا الصراع، فلأنها تريد تأمين وصول بيترولها عبر خط أنبوب إلى مدينة طرطوس الساحلية، حيت توجد القاعدة العسكرية الروسية. ويدخل هذا في إطار حماية تسويق منتوجها البيترولي من كل حذر غربي عليها، ولا يمكن أن تؤمن هذا الأمر إلا في ظل نظام قريب منها سياسيا ودينيا، فإذا قام نظام سني، فإن هذا الهدف الإيراني سيكون مهددا. أما الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى جانب رغبتها في التحكم الكامل في أثمنة الطاقة، سواء أكانت غازا طبيعيا أو بيترولا –وبالخصوص بعد اكتشافها لموارد طبيعية هائلة في بلادها، تضمن لها الإكتفاء الذاتي، بل حتى تصدير الفائض منه، حتى وإن كانت تكلفة نقله أعلى بكثير من دول أخرى-، فإن هدفها الأسمى في هذا النزاع هو من جهة قطع الطريق على روسيا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، لكي لا تستعيد دورها كقطب ثان في العالم ومن جهة أخرى الإبقاء على سيطرتها على "حلفائها" الأوربيين بافتعال مشكل اللاجئين. طبقا لأسانج Julian Assange في حوار مستفيض للموقع الإعلامي اليوناني The Press Project، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية زعزة نظام بشار منذ 2006، واستراتيجيتها الأساسية في هذا الإطار هي: "إفراغ سوريا من مواطنيها" وبالخصوص من الطبقة المتوسطة، يعني الأطباء والموظفين والمحامين والمهندسين إلخ، أي الناس الذين يساهمون مباشرة في تسيير النظام. ويُذَكِّرُ أسانج Assange بنفس الوضع إبان الحرب على العراق: "لنا مسودات ديبلوماسية، تؤكد بأن الحكومة السويدية قالت أثناء الحرب على العراق بأن مساهمتها في الحرب هي استقبال النازحين العراقيين. وقد طلب العراق في السنين الأخيرة من ألمانيا ألا تستقبل لاجئين من العراق، لأن ذلك ليس في صالح إعادة تعمير البلد ...". الثابت هو أن الولايات المتحدة الأمريكية "ذُهلت"، كما وقع لها عندما ضمت روسيا شبه جزيرة "الكريم"، عندما علمت بأن روسيا بدأت القصف في سوريا. ويتأكد هذا من خلال "عتاب" الكونغريس الأمريكي لمخابراته التي لم تستطع "التنبأ" بهذا التدخل وأمرت بفتح تحقيق في هذا الأمر.
انهزام الخيانة العربية أمام الذهاء الروسي
طبقا لمجلة "الأخبار الإقتصادية الألمانية"، بتاريخ 31 غشت 2015، واعتمادا على وثائق سرية موثوق بها، توثق للقاء بين بوتين ورئيس المخابرات السعودية بندار بن سلطان، قبيل الألعاب الأولمبية الأخيرة التي نظمت بروسيا، ساومت السعودية روسيا للتخلي عن الأسد، واعدة إياها بأنها سوف لن تفقد قاعدتها العسكرية في طرطوس بعد "تنحيته" وبأن المقاومين الشيشان، الذين يعتبرون "خطرا" على روسيا في يد السعودية ويمكنها نزع شوكتهم ضد روسيا، وكما قال هذا المسؤول السعودي لبوتين: "لا تخيفنا هذه المجموعات. إننا نستغلها للضغط على الحكومة السورية، لكنها سوف لن تلعب أي دور في مستقبل سوريا". كما اقترح عليه الدخول إلى الأوبيك، لأن روسيا أظهرت مرات عديدة رغبتها في ذلك، لكن الأبواب بقيت مقفولة في وجهها. وكان جواب بوتين واضحا: "سوف لن يتغير موقفنا من الأسد أبدا. إننا نؤمن بأن الحكومة السورية هي أحسن ممثل للشعب السوري ...".
يؤرخ هذا اللقاء إذن إلى شيئ أعمق وهو تنافس روسيا والسعودية وقطر على السوق الأوروبية فيما يخص تسويق الغاز الطبيعي. ذلك أن أوروبا تستورد أكثر من ستين في المأة من حاجياتها من هذه المادة من روسيا، وتحاول أن تجد بديلا عنها لتتخلص من التبعية في هذا الميدان لها. وتستغل هذه الأخيرة هذه التبعية كورقة ضغط على الأوروبيين باستمرار. هناك إذن مشروع سعودي قطري لبناء أنبوب غاز يمر من سوريا وتركيا ليزود أوروبا بالغاز، يتعارض بالواضح والمصالح الروسية. ولهذا السبب لن يكون هناك أي تحالف على المدى القريب والمتوسط بين الثلاثة، خاصة وأن السعودية وقطر تمولان بملايير الدولارات "الثوار" المعارضين لنظام الأسد.
إضافة إلى هذا، فإن الأمر يتعلق اقتصاديا بمستقبل الدولار كعملة عالمية، وبالخصوص فيما يخص تسويق البترول والغاز. إذا كانت السعودية، الحليف الطيع لأمريكا، تحاول كل ما في وسعها المحافظة على هذه العملة كعملة وحيدة في السوق العالمي، فإن روسيا –وبطريقة غير مباشرة إيران- ترى هيمنة التعامل بالدولار في طريق الأفول، ولربما يوعوض مثلا بالأورو، وهو شيئ يخدمها اقتصاديا وأيديولوجيا.
هل الصمت العربي تواطئ مع الإمبريالية؟
طبقا لهذه المعطيات، يبقى السؤال المطروح على الشعوب العربية، وبالخصوص على مفكريها، هو: هل هذا الصمت الرهيب من طرف العرب على تجزيئ وتقسيم ومحاولة إعادة رسم الجغرافية العربية من طرف قوى إمبريالية، سواء أكانت أمريكا أو أوروبا المتحدة أو روسيا، هو مؤشر على غسل أيدينا فرادى وجماعات من تحمل مسؤوليتنا اتجاه أمتنا؟ هل هذا الإنهزام الوجودي للعرب قدر، أم أننا وصلنا مرحلة لا رجعة فيها للإضمحلال والموت البطيئ؟ هل السكوت عن الخونة العرب مشروع، وهم يبيعون ويشترون في الأمة كما يحلوا لهم؟ هل هناك شعوب عربية حتى، أم فيالق من التابعين لأنظمة تقاد من أنوفها كقطعان خنازير من طرف الإمبريالية المعاصرة؟ وهل هناك من أثر للمفكر العربي، وبالخصوص في شمال إفريقيا، وبالأخص في المغرب الأقصى، لمسايرة الوضع القومي وتنوير الأمة وتنبيهها إلى المخاطر الحاذقة بها، أم أن هذه الفئة اعتادت على الكراسي المريحة وبركة أسيادها وما يرمونه إياها من قطع نقدية وجوائز تقديرية إلخ.؟
الواقع أن كل عربي عربي مطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى بفتح أعينه والإنخراط النشيط في المساهمة في مستقبل أمته بالتصدي الحازم بكل الوسائل الشرعية المتاحة، باليد والقلم واللسان للإمبرالية الغربية ولشبه حكام عرب. لابد من انتفاضة حقيقية للشعوب العربية من الخليج إلى المحيط ضد هذين العدوين اللذوذين. لا يعقل أن نستمر في قبول مغالطات الغرب وعدم التفطن بأن "حقوق الإنسان" هي منظومة استعمارية قائمة المعالم وبأن "الديموقراطية" هي سلب الشعوب الغير الغربية استقلالها وإرادتها في تقرير مصيرها بيدها. ليكن الأسد كما يريد أن يكونه الغرب: ديكتاتوريا، قمعيا، وغدا إلخ، لابد من رفض الحرب على الشعب السوري والخروج إلى الشوارع للتنديد بنتائجها وتشريدها للشعوب. قد ينحى بشار مستقبلا، قد يشنق يوم عيد، قد يعثرون عليه في أنبوب ما وتداس كرامته الأنطولوجية، لكن الشعب السوري سيعيش. لن يغفر للشعوب العربية جمعاء السكوت عن مأساة هذا الشعب، كما يسكت عن محاولة تنحية الشعب الفلسطيني. فالسوري يهرب إلى الغرب، لأنه لم يجد مأوى في نزوحه وهروبه من الموت المحقق في الدول العربية، التي تتهرب منه وكأنه وباء معدي. وحتى الذين استقروا في بعض الدول العربية يلاقون معاملات أقل ما يقال عنها أنها وحشية من طرف الحكومات العربية ومن طرف الشعوب نفسها. يُتحرش بنسائهم وفتياتهم في مختلف الشوارع العربية حيث وصلوا، بل أن بعض "أغنياء" الأردن والسعودية بالخصوص يغتصبون طفولتهم وشبابهم في "صفقات" زواج لمدة معينة، أي لتلبية رغباتهم الحيوانية الدفينة على حساب كرامتهمن.