لا يعتبر التسقيط السياسي وليد الخصومات السياسية لليوم، بل هو ترسب قديم ومخزون لاشعوري، استوطن ذاكرة الساسة المغاربة الذين حرموا من ممارسة العملية الديمقراطية لعقود من الزمن. وأسباب رواسب هذه الظاهرة متجذرة في الإختلافات في الرؤى و المواقف، وبالخصوص اختلاف المرجعيات الأيديولوجية بين الأحزاب. وما يزيد صبا للزيت على النار هو عزوف المغاربة عن السياسة وتحقيرهم لساستهم، الذين لم يصبحوا في نظرهم يطمحون ويتتوقون لتمثيلهم بقدر ما يتهافتون على مناصب بعينها، قد تسمح لهم، إما بتسلق السلالم الإجتماعية أو الوصول إلى أهداف مادية قحة. لهذا السبب يصبح التسقيط السياسي جزءا مهما من سيناريو تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين، في محاولة لاستقطاب الناخبين، علما بأن الحزب الذي يلجأ إلى مثل هذه الإستراتجية لا يعي بما فيه الكفاية نضج الإنسان المغربي سياسيا، وتفطنه لما يُحاك ضد مصالحه العامة. هناك إذن نوع من الإستخفاف بقدرات وذكاء الشعب الناخب من طرف بعض السياسيين، يُقابل برد فعل رافض لكل الأحزاب والقرف من "المهرجانات" الخطابية، حيث تُستهلك لغة الخشب حتى التخمة، ضنا بأن الناخب يُصغي ولربما يُقنَع بالشطحات الخطابية لهذا الحزب أو ذاك.
غالبا ما يخلط المرء بين الدعاية الإنتخابية والدعاية السياسية. الأولى تكتيكية ومرحلية تُمارس وقت الإنتخابات، هدفها هو محاولة التأثير على الناخبين للحصول على أكبر عدد ممكن من الأصوات. أما الثانية فهي استراتجية الحزب السياسي طوال الوقت لجذب أكبر عدد ممكن من المؤيدين عن طريق التعريف المستمر ببرنامجه ونشاطه ورؤيته الشاملة في الإدارة والطرق التي يطرحها لحل المشاكل الإجتماعية والإقتصادية إلخ. إضافة إلى هذا فإن الدعاية السياسية لا تتعامل مع الفرد كفرد، لكنها تتعامل معه على أساس الأشياء المشتركة بينه وبين الجمهور العريض للمواطنين، يعني أنها تتوجه لدوافعه ومشاعره وآماله وتصوره لذاته وللجماعة حيث يعيش. ولهذا السبب بالضبط لا ينبغي للدعاية أن تتجاهل رغبة الفرد في تأكيد ذاته.
إن التنافس حق مشروع، ولكن هناك شروط تفرضها الممارسة الديمقراطية الحقيقية ومن ضمنها ألا يدخل هذا التنافس في إطار التسقيط السياسي كجزء من الدعاية الإنتخابية وأن تراعى المصلحة الوطنية العليا والحفاظ على العملية السياسية وعدم خلق الأزمات التي من شأنها أن تعكر الأجواء في البلاد وتلحق ضررا بالمواطن. وقد جاء خطاب الملك للأمس (20 غشت 2015) كمحاولة تصحيح عميقة لآداء السياسي، بل وضع لبنات تخليق الحياة السياسية، سواء على مستوى المرشح أو الحزب أو الناخب. وقد تطرق بكل جرءة، بل بوعي تام بالممارسة الدعائية للأمس، إلى سلوكات المرشحين والمنتخَبين والناخبين على حد سواء، واضعا الأصبع على مواطن الخلل وراسما الطريق لسلوكات سياسية مسؤولة من طرف الجميع. ولعمري أن هذا خط فاصل بين مرحلة قديمة ومرحلة جديدة للسياسة في المغرب، جاءت بعدما لم تنجح الأحزاب السياسية في التخلص من الإرث القديم "للإستحواذ" على أصوات الناس والعبث بها لقضاء مصالحها، وإخفاق الناخب في محاسبة ضميره وتحمل مسؤوليته اتجاه عملية اختيار ممثليه عن اقتناع.
أتوقع شخصيا بأن الكثير من المرشحين، الذين دخلوا معمعة الحملة الإنتخابية بالعقلية القديمة والراغبين إما في الإكتساب من وراء ترشحهم أو صقل مواقعهم الإجتماعية، سينسحبون، لأن نبرة خطاب الملك كانت واضحة وشفافة للجميع، لا تستحمل تأويلات متعددة: فالرغبة في المشاركة في تسيير الشأن العام، لابد أن تكون نابعة من التزام عضوي بمصالح الجماعة أو الجهة، وهي رغبة تكون حافلة بالإيمان بمُثُل دقيقة وبروح التضحية من أجل الآخرين والعمل الدؤوب على إصلاح ما يجب إصلاحه وتطوير ما هو قابل للتطوير في الحياة اليومية للمواطن وفي عين المكان. فالرغبة في تحمل المسؤولية هو تكليف يختاره المرء عن طواعية ووعي وليس تشريفا، المراد منه تلبية رغبات أنانية، إن لم نقل نرجسية.
لقد وُضعت عقارب ساعة الممارسة السياسية في المغرب في الإتجاه الصحيح، ولعل الدرس الرئيسي من خطاب الملك هو ما بقي مُضمرا وراء الكلمات: سوف لن يكون هناك أي تسامح مع كل من خولت له نفسه التلاعب بالمصلحة العامة من المرشحين، الذين سيصبحون منتخبين، ولا يحق للناخب "النذب" فيما بعد، إذا تأكد أن من اختارهم غير مؤهلين لتحمل المسؤولية. "المفتاح السحري" الذي وضعه االخطاب في يد الناخب، بإمكانه الإشتغال في الإتجاهين: اختيار الممثلين عن وعي وبكامل المسؤولية الشخصية وعزلهم إذا ثبت أنهم لا يقومون بمهامهم على أحسن وجه. وبهذا يُجر البساط من تحت أقدام الساسة الذين يلتجؤون عنوة للتسقيط السياسي واستعمال مفردات بذيلة ضد "خصومهم". فالعمل السياسي الحق والمسؤول يتجاوز عقلية "العدو"، معتبرا الآخر منافسا أثناء الحملة الإنتخابية وشريكا في الممارسة السياسية فيما بعد، بغض النظر عن النسبة المئوية للأصوات المحصل عليها.