يعتبر الصوم تراثا إنسانيا بكل مقاييس المفهوم. عُرف عند الكثير من المعتقدات السابقة على الديانات السماوية وما لحقها. شاع بين سكان البيرو القدماء مثلا بأن الصوم كفارة أو عقاب عن الذنوب والخطايا بعد اعتراف الفرد بها أمام الكاهن. وعرف عند هنود أمريكا كمظاهر مصاحبة للإحتفالات إبان تغيير الفصول الموسمية. أما الهندوس فيصومون في الأيام الأولى من الأشهر القمرية وفي مناسبات وأعياد خاصة بهم. وإلى حدود عام 1949 كان الصينيون يصومون لفترة محددة والإنقطاع قبل التضحية في ليلة الإنقلاب الشتوي، قبل أن يبدأ الإله يانج (القوة الموجبة) دورة جديدة.
عرفت البوذية الصيام أيضا في أوقات محددة وفق النظام القمري. ويعتبر تحول القمر إلى بدر مبدأ ومنتهى للصيام عندهم. يمتنعون عن الطعام، وخاصة المطبوخ منه، مع السماح ببعض المشروبات (الشاي مثلا). يمارسون الصيام كوسيلة من وسائل تطهير الذات وكأداة ناجعة لتحرير العقل الإنساني من الأوهام والأساطير، ذلك أن الصوم عندهم يُوَلِّد الطاقة الداخلية التي تساعد النفس على كبح شهواتها وأطماعها وتحقيق السكينة والصفاء الذهني. أما عند اليونان القدامى فقد كان الصوم وسيلة لإعداد الأفراد، وبالخصوص الكهنة، للتقرب من الآلهة. كان عبدة "اكليبوس"، إله الطب في الميثولوجيا اليونانية، يعتقدون بأن إلههم يمنح النبؤات الشافية في الرؤى والأحلام لمن صام بإخلاص من كهنته. في مقابل هذا حرمت الزارادشتية الصوم، لاعتقادها بأنه لا يساعد على تقوية المؤمن في جهاده ضد الشيطان.
أكدت الديانات السماوية الثلاثة على ضرورة الصيام خلال فترات معينة من العام، على الرغم من اختلافها في دلالاته. يعتبر مفهوم الصوم في اليهودية مفهوما مطاطياً، ويتفرع بتفرع اجتهادات أحبار اليهود حول الفرائض والعبادات الواجبة على المؤمن. هناك نوعين من الصيام عندهم: الصيام الفردي، أو ما يسمى بصوم العُسْر عند نزول مصيبة أو حزن على الشخص أو اقترافه لخطيئة أو جريمة. والصوم الجماعي، ويكون في حالات الكرب والحزن والقلق الجماعي من كارثة ما. وتفرض الشريعة اليهودية على معتنقيها صيام "يوم عاشوراء اليهود".
والصوم في المسيحية هو الإمساك عن الطعام لهدفين: من أجل الآخر (الإنسان) والخليقة.ومن أجل العلاقة مع الله. فالصوم ليس موضوع طعام وشراب، بل مبدأ تربوي لتهذيب الإنسان روحيا وجسديا. فليس الذي يدخل عن طريق الفم هو الذي ينجس الإنسان في عرفهم، بل ما يخرج منه.
وضع الإسلام الصوم كأحد أركانه الأساسية، ووسع مفهومه وفهمه ليشمل ما هو ذاتي، علاقة العبد بربه وعلاقته بنفسه، وما هو اجتماعي تكافلي، وما هو صحي، نفسيا وجسديا وعقليا. وبهذا فإنه يُكمل ممارسة الصيام كأصل من أصول الثقافة الإنسانية، بل يسمو به إلى مستوى رفيع، في علاقة بين العبد وربه ومن يتقاسم معهم العيش في هذا الكون والطبيعة. والسؤال المطروح هو: هل وصل المسلم المعاصر إلى هذه الدرجة السامية للصوم، أم بقي في مستوى "الجوع والعطش"، موهما نفسه بأنه صائم؟ هل نحن مستعدون، ونحن تائهون في ثقافة الإستهلاك، ممارسة الصوم كفلسفة حياة تقربنا من الله ومن أنفسنا ومن بعضنا البعض ومن شعوب أخرى؟