اغتيل العلي، عميد الكاريكاتور العربي، يوم 22 يوليوز 1987 في الشارع العمومي اللندني، غير بعيد عن جريدة القبس حيث كان يعمل بطلاقات نارية، على مرئى ومسمع من المارة. كان يناضل على واجهتين: ضد الصهيونية وضد فساد بعض القادة الفلسطينيين. سنة تقريبا بعد تنحيته، ألقي القبض على قاتله، الذي اعترف بأنه كان عميلا للموساد، جُند خصوصا للقيام بهذا الأمر.
مرت هذه الجريمة البشعة في صمت ولم تعط وسائل الإعلام الغربية لنفسها حتى عناء استنكارها باسم "حرية التعبير"، كما فعلت مؤخرا مع الأسبوعية الساخرة "شارلي إبدو". كل ما قامت به السلطات البرطانية أنذاك هو إغلاق مكتب الموساد رسميا، على الرغم من استمراره في نشاطاته في إنجلترا بطريقة غير رسمية.
عندما انتبه كاريكاتوري فرنسي سيني Siné إلى ناجي العلي و أكد بأن هذا الأخير اغتيل: "بسبب اقتناعاته التي كان يعبر عنها بطريقة ممتازة بفضل رسومه وشخصيتها المسماة حنضلة"، تم تسريحه من شغله من طرف مدير "شارلي إبدو" أنذاك فيليب فال Philippe Val.
مثال آخر على "حرية التعبير" بالطريقة الغربية عامة والفرنسية بالخصوص يقدمها الكوميدي الساخر ديودوني مبالا مبالا Dieudonné M'bala M'bala، المناضل ضد الصهيونية والعبودية، والذي بشجاعة قل نظيرها يعري عن عورة النظام الصهيوني في الساحة العمومية العالمية بمفردات لا غبار عليها ولا تستحمل أكثر من معنى: "اخترع شيئ فريد من نوعه، لنا شعب ضحية يحمل معانات الكون كله [...] إنه الشعب اليهودي". ويضيف في فيديو له: "لابد أن نتحرر من هذه القمامة، التي هي الصهيونية". يُلاَحَق ديودوني باستمرار من طرف السلطات الفرنسية وقضائها، يحاول المرء إغلاق فمه وفرض حصار إعلامي عليه، بل منع عروضه الساخرة في فرنسا ومنع بيعها على أقراص مضغوطة كما حدث مؤخرا، بتهمة معاداته للسامية. والواقع أنه لا يعبر فقط عن رأي، بل يصور، بكلمات قوية تَعْمُد للإثارة، واقع الصهيونية-الأخطبوط ولوبياتها وتأثيرها القوي في السياسات الغربية ومدى الضغط الذي تمارسه على القادة الغربيين، بما في ذلك الفرنسيين. يقول مثلا معلقا على زيارة الرئيس الفرنسي الحالي لإسرائيل في شهر نونير 2013: "هل رأيتم عاهلنا الإشتراكي يركع أمام أسياده؟" أو عندما يسخر من الوزير الأول الفرنسي مانويل فالز: "هذا الجندي الإسرائيلي الصغير ضعيف الشخصية والمنصاع".
يسمح لنا هذا التذكير بالتساؤل حول البعد الأيديولوجي لما يسمى: "حرية التعبير"، التي تستغل بطريقة بشعة كـ "دين جديد"، خاص بالغرب وحده. لا يُسمح لها بمغادرة التراب الغربي، وعندما تقوم بذلك، لا يحرك المرء ساكنا إذا ما جرت في الوحل وأسقطت على الأرض. لهذه الإلهة الأسطورية معبدا رسميا، يمكنها محاربة كل الآلهة والإلاهات كيفما يحلو لها، دون مشاكل ولا انتقادات. تأخذ الحق في إهانة رموز ديانات أخرى و تغذية الحقد والكراهية اتجاهها، لأنها بالوجه الذي تقدمه على نفسها حاليا لا تعيش إلا بامتصاص الدماء. وبهذا يمكن القول بأنها إلة الحرب وتنحية الآخر وتحقيره. لابد والحالة هذه، أي بالطريقة التي تُمارس بها "حرية التعبير حاليا"، من رفضها، فليس لها من ميراث الأنوار إلا الإسم ولا يمكن أن تكون كونية، لأنها مؤسسة على نواة استعمارية تسلطية وعطشى لإخضاع الآخرين وتدجينهم بالطريقة التي هي في حاجة إليها. تحب نشر الفوضى وإشعال فتيل الصراعات بين الفرقاء وحك اليدين فرحة لما قد تجنيه من أرباح من هذه الصراعات.
لم يمت العلي وشارلي من أجل نفس الحق. ذلك أن "حرية التعبير" لا يُعترف بها إلا لنخبة غربية محددة وليس لأبناء العالم الثالث. ولهذا السبب من اللازم رفض الطريقة التي تمارس بها السياسة الغربية هذه "الحرية".
تحت ذريعة حماية "حرية التعبير" يأخذ المرء الحق في هدم حرية الآخر بطريقة وحشية ودون أدنى إحساس إنساني لأكثر من مليار مسلم مثلا، والذين ليسوا كلهم إرهابيين. فـ "حرية التعبير" التي يدافع عليها الغرب حاليا، في شكلها السلطوي وأحادي الجانب، تفتح الأبواب على مصراعيه للمتطريفين من كل جانب. والأدهى من هذا هو عندما يضغط المرء عنوة على نفس مكان الإلتهاب، كما حدث ذلك بإعادة نشر كاريكاتورات "الإبدو" في منابر غربية أخرى تحت وهم التضامن، وزيادة صب الزيت على النار. والسؤال الذي يطرح في هذا الإطار هو أين ظل مبدأ آخر من شأنه قيادة الجنس البشري نحو الأحسن ويتعلق الأمر بالعقل؟ فعوض الرجوع إلى العقل لمحاولة فهم كيف يمكن قبول الآخر كما هو وليس كما نريد أن يكون (نسخة منا)، فإن الغرب يسقط في هستيرية الدفاع عن القبيلة ويعبر عن مشاعر العداء الأكثر بدائية ضد مجموعة بشرية معينة. والملاحظ هو أن مالكي بعض وسائل الإعلام في الغرب قد أخذوا إجازة من عقولهم ولا يريدون وعي كونهم يوسعون الهوة أكثر فأكثر بين الشعوب والرمي بهم في غياهب جحيم التناحر والتقاتل الفعلي.
إننا نرفض رفضا قاطعا كل أنواع التطرف كيفما كان نوعه، لأنه يمس الكرامة الإنسانية بتوجهه الهدام، ليس اتجاه الآخر فحسب، بل اتجاه الذات كذلك. على الغرب السياسي حط نفسه محط تسائل في تعامله مع الشعوب الأخرى. فاللعبة المزدوجة لسياسته هذه اتجاه المسلمين قد انفضحت: يوهم المرء الشعوب المسلمة بالدفاع عنها والرغبة في خيرها وتقدمها، ويساعد في نفس الوقت الديكتاتوريات، التي "عين" للسهر على مصالحه في العالم العربي. لم تخرج السياسة الغربية اتجاه الشعوب الضعيفة من منطق الإستعمار وسياسة: "فرق تسد". ولكل حقبة تاريخية طرق واستراتيجيات محددة لتمديد مدة نهب الشعوب الأخرى: مرة باسم التقدم وأخرى باسم "الديقراطية" و"حقوق الإنسان" وثالثة باسم "حرية التعبير". إذا رجعنا إلى فرنسا، فإننا نجد وراء القشرة الرقيقة التي تلف سياستها اتجاه العالم المسلم طبقة سميكة من الإستراتيجيات التي تحاول بها الحفاظ على هيمنتها عليه. ذلك أن لارتفاع الإسلاموفوبيا في هذا البلد جذور تاريخية واضحة منذ فولتير، الذي وتحت غطاء مقاومة المسيحية، لم يجد ضحية أخرى من غير الإستهزاء في مسرحية من مسرحياته بالمسلمين ونبيهم. كما أن الطريقة التي تتعامل بها فرنسا مع المسلمين الذين يعيشون على أرضها يُظهر بما فيه الكفاية بأنها هي التي توفر الشروط الضرورية لتعزيز الإسلاموفوبيا. فأغلبية الجيل الجديد من المسلمين الفرنسيين هم نتاج مباشر للتربية المؤسساتية الفرنسية. لا يمكن لمن يعيش الإقصاء منذ طفولته ويتعزز هذا الشعور عنده في شبابه أن يفكر بطريقة أخرى من غير منطق الإنحراف، المبلل حتى النخاع الشوكي في الشعور بضرورة الإنتقام. تجني فرنسا إذن ما زرعته، ذلك أن فيالق المسلمين الذين يعيشون في هذا البلد هم المتضررين الأوائل من السياسة التعليمية الفرنسية، لأن مبدأ تعادل الفرص في التعليم الفرنسي "اغتيل" في عقر داره. ونتيجة هذا هو أن معدل الإنقطاع عن الدراسة في صفوف المسلمين هو من المعدلات الأكثر ارتفاعا في أوروبا. واستمرار سياسة اللامبالات اتجاههم قاد إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية أخطر بكثير مما يمكن للمرء تصوره في فرنسا. من هذا المنطلق فإن فرنسا هي التي تُنتج التطرف بكل أنواعه. وكل مرة تُصدم فيها بسلوك بعض المنحرفين من أبنائها "المسلمين" تنفجر "قنبلة" المعادات للإسلام فيها، تحت ذريعة الدفاع عن المبادئ التي تؤسس الجمهورية. لم تعد هذه الأخيرة قادرة على إدماج مكوناتها السوسيو-ثقافية المتعددة والمختلفة، بل يتمظهر لاوعيها التاريخي الحقيقي كل مرة استفاقت على فاجعة، مشيرة بالأصابع إلى المسلمين.
يبقى في الأخير التسائل عن طبيعة "حرية التعبير" التي يطالب الغرب الآخرين ممارستها: أهي "حرية التعبير" المفهومة كحقه الأبدي في "استعباد الآخرين" و إذلالهم بمناسبة أو غير مناسبة؟ أهي تلك الأدات التي يُشهرها في وجه الشعوب الضعيفة التي استعمرها من أجل الإستمرار في إخضاعهم؟ لـ "حرية التعبير" و للحرية بصفة عامة حدودا طبيعية لا تسمح لها بتجاوزها تحت أية ذريعة كانت، وبالخصوص إذا استُغلت أيديولوجيا لقضاء أغراض إقصائية معينة للآخرين.