عُزل محمد مرسي من رئاسة مصر، وأدخل السجن، هو وجل قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مصر، واضطر حمادي الجبالي، الوزير الأول التونسي الأسبق، والمنتمي إلى حركة النهضة الإسلامية أن يغادر منصبه، قبل أن يغادر أخيرا حزب النهضة التونسي التي شغل منصب الأمين العام فيها، ولم يتأخر عنه كثيرا خلفه، علي لعريض، الذي شغل منصب وزير الداخلية في حكومة الجبالي، في الاستقالة من رئاسة الحكومة قبل أن يكمل السنة في منصبه.
فيما انزلقت ليبيا إلى أتون الصراع المسلح بين فرقائها السياسيين، والتنازع حول الشرعية بين البرلمان والحكومة، وعليه يكون بنكيران الإسلامي الوحيد الذي يقود حكومة بلد عربي.
استمرار عسير
بعد ما كانت حكومة بنكيران في النصف الثاني من سنة 2013 على وشك انفراط عقدها، عندما أعلن حزب الاستقلال، الحزب الثاني في الحكومة، انسحابه منها في يونيو، بالتزامن مع التطورات على الساحة المصرية، والتي انتهت بعزل الرئيس مرسي، ساعتها وضع بنكيران وحزب العدالة والتنمية، في حرج كبير بعدما لم يعد لهم من إمكانية لتعويض حزب الاستقلال المنسحب غير حزب التجمع الوطني للأحرار.
وكانت العلاقة بين الحزبين أقرب إلى القطيعة منها إلى التحالف، بعدما سارع وزير الخارجية صلاح الدين مزوار، القيادي بحزب التجمع، غداة الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية في 25 نوفمبر 2011 بالقول إن "التحالف مع العدالة والتنمية خط أحمر".
واستمر التفاوض بين العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار أكثر من شهرين، ومعها ظل سؤال إمكانية استمرار بنكيران في قيادة الحكومة يتردد باستمرار مع توارد الأخبار حول تعثر هذه المفاوضات في لحظات حرجة من زمنها الطويل، وإن قلت في العدالة والتنمية ومناصريهم الذين فضلوا الانسحاب من الحكومة على أن يتحالفوا مع التجمع الوطني للأحرار.
وقبل شهرين من حلول سنة 2014 أعلن عن حكومة بنكيران في نسختها الثانية المعدلة، وهو ما اعتبره بنكيران وإخوانه "انتصارا" لهم على من كانوا يسعون إلى رؤيتهم خارج دائرة الحكم على غرار نظرائهم في مصر وتونس، وبطريقة "ناعمة"، بغض النظر عن كل ما قيل حول تحالفهم مع حزب الأحرار.
لكن ما اعتبره العدالة والتنمية انتصارا له، لم يمر دون أن يدفع "ضريبة" من صورته، كحزب يمكن أن يتحالف مع من كانوا يصفونهم "رعاة فساد"، بل يمكن أن "يضحي" بأحد أبرز قيادييه وأمينه العام السابق سعد الدين العثماني من وزارة الخارجية، وأن يختار هذا الأخير النزول من قيادة الدبلوماسية المغربية، والخروج من قطار الحكومة، لصالح حليفهم الجديد صلاح الدين مزوار الذي أصر على منصب وزير الخارجية بعدما اعترض قياديون من العدالة والتنمية على توليه وزارة المالية لـ"سوابقه" في هذه الوزارة.
لكن الحكومة استمرت ودخل معها بنكيران سنة 2014 أقوى مما كان يريده خصومه، حسب ما يروج له هو وقياديو حزبه في تعليقاتهم الإعلامية الكثيرة.
وظل بنكيران ومنذ نجاحه في تشكيل النسخة الجديدة لحكومته بمعية حزب التجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية، وطيلة سنة 2014 يردد أن الحكومة تعيش أفضل أيام انسجامها بعدما "أزيل حجر كبير في حذاء التحالف الحكومي"، على حد تعبير بنكيران، في إشارة إلى الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط الذي لا يخفي خصومته مع بنكيران.
وظل بنكيران يردد أن المشكل لم يكن في وزراء حزب الاستقلال بل في حميد شباط الوافد الجديد على قيادة الحزب، والذي يتهمه بالسعي لإفشال حكومته و"مصرنة المغرب"، بمعنى نقل التجربة المصرية في إزاحة حكم الإسلاميين إلى المغرب.
مع الملك دائما
"من كان يريد رئيس حكومة يتصادم مع الملك فليبحث له عن رجل غيري"، هكذا يلخص بنكيران منهجه في تدبير العلاقة مع الملك، وهكذا كان يجيب كلما سئل عن حدود صلاحياته الدستورية كرئيس حكومة في تقاطعها مع صلاحيات الملك، واتهامه من طرف بعض أطراف المعارضة بالتفريط في صلاحياته، لكن بنكيران كان يجيب بجملة أخرى أثيرت على لسانه، تقول "أصل تميز المغرب هو التوافق بين الملك والشعب، والمغاربة يصنعون المعجزات بهذا التوافق ولا يصنعون شيئا بغيره".
ولم يكن بنكيران ليشغل باله كثيرا بشكليات النص الدستوري، فهو بحسه السياسي يعرف أن السياسة تمارس في مساحة رمادية أكبر من الدستور، وأن المنافسة أو الصراع مع الملك ليست من منهجه في تدبير حكومة يعينها هذا الأخير، فكان بنكيران يغيب حين يحس أن الموقف يقتضي حضور الملك فقط، حصل هذا عندما غاب عن زيارة ضحايا انهيار منازل في الدار البيضاء.
وظل بنكيران وصديقه الوفي، الراحل عبد الله بها، الذي يوصف بكونه النصف الثاني لبنكيران، الذي رحل في 7 من ديسمبر الحالي في حادثة قطار قرب الرباط، يعبران مرارا أن مشروع العدالة والتنمية هو تطبيع العلاقة بين الحركة الإسلامية التي ينحدرون منها والقصر الملكي والدولة، وجعل حزبهما وحركتهما (التوحيد والإصلاح) جزء أصيل من فسيفساء النسيج السياسي المغربي لا طارئ عليه.
ولا يجد بنكيران غضاضة في القول إن مشروع حزبه هو مشروع المجتمع المغربي الذي ارتضاه منذ قرون، وأن على رأس هذا المشروع الإسلام والملكية، وأن منهجهما "التعاون لا الصراع" و"الإصلاح لا السلطة"، لذلك لم يكن من المفاجئ أن يقول أحد أقطاب المعارضة الشاب حسن طارق القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي، وهو يعدد مناقب الراحل عبد الله بها أن يقول إن هذا الأخير وبنكيران استطاعا أن "يمغربا فكرة الإسلام السياسي".
قرارات صعبة ومعارضة في وجه بنكيران
"الأزمة هي من جاءت بنا ولسنا نحن من جاء بها"، يخاطب بنكيران معارضيه الذين اتهموه باتخاذ قرارات تضر فئات عريضة من المجتمع المغربي وتعمق الأزمة في المغرب، ويضيف أن القرارات التي اتخذتها حكومته من قبيل رفع الدعم عن المحروقات ومشروع الزيادة في سن المتقاعدين، والاقتطاع من أجور الموظفين المضربين عن العمل، والزيادة في أثمنة استهلاك الكهرباء وغيرها من القرارات، التي اعتبرت مضرة بالفقراء ومحدودي الدخل وحتى بالطبقة الوسطى بالمغرب، كان مضطرا لاتخاذها، حتى لو كانت على حساب شعبية حزبه ورصيده الانتخابي، لأنها كان يجب أن تتخذ منذ سنوات، لكن الحكومات السابقة فضلت أن تؤجلها.
وظل بنكيران يصر أمام معارضيه، في خطاب لا يخلو من هجوم، أن المغاربة يتفهمون قراراته "الصعبة" لأن من يعارضونه لا يملكون بديلا آخر يقدمونه بل هم من كانوا سببا فيما ينتقدونه عليه.
خطابات ود للمحيط العربي
في كل مشاعر السخط التي يحملها الإسلاميون في مصر وتونس وغيرهما لبعض دول الخليج واتهامهم لهم بدعم "الانقلاب" على الربيع العربي ونتائجه، وبعدما لم يخف هؤلاء الخليجيون دعمهم لما يعتبرونه "تغييرا" في هذه البلدان، بقي بنكيران وحكومته بعيدا عن هذا الخطاب، وظل يوزع الود لحكومات الخليج ومستثمريه، وهو يعلم أن علاقات المغرب مع الخليج لم تكن يوما رهينة حكومات مهما تباينت أيديولوجيتها، بل إن الكلمة الفصل فيها للملك.
ففي افتتاح أشغال الملتقى الرابع للاستثمار الخليجي المغربي نهاية نوفمبر الماضي، بالصخيرات قرب الرباط، خاطب بنكيران المستثمرين الخليجين وعينه على أهل السياسة قبل الاقتصاد بالقول "نحن وأنتم عائلة واحدة، وإذا كانت العلاقة في التجارة مبنية على المشاحة فإن العلاقة العائلية مبنية على المكارمة ونحن عائلة واحدة".
ولا ينسى بنكيران أن يقول للخليجين إنه بقدر حاجة المغرب للخليج تكمن حاجة الخليج للمغرب، فقال "يجب أن نلوم بعضنا عن التأخر في أن تكون العلاقة الاقتصادية بيننا قد أخذت مدى حقيقيا وعظيما، لأن المغرب هو بوابتكم الغربية، فيجب أن يكون المغرب الرئة التي تتنفسون من خلالها كما تتنفسون في المشرق".
ولم يفت بنكيران أن يذكرهم أن "المغرب دولة مستقرة، وهي ليست مستقرة عبثا بل لأسباب تاريخية وطبيعية، والمغرب يتعامل مع كل الأحداث السياسية بطريقته"، عازفا على وتر الربيع العربي الذي يتهم الخليجيون بمناوءته، لطمأنتهم إلى ما صار عليه في المغرب.
وقال "كل هذا تفاعلنا معه ومغربناه بطريقتنا، وهكذا تعاملنا مع الربيع العربي، الذي جاءنا مزمجرا فسكناه تدريجيا، بعد ذلك أصبح شيئا إيجابيا ووصلنا إلى الحكومة".
كما لم يغب عن بنكيران أن يذكرهم بما يعتبره المغاربة استثناء في المنطقة، إنه الاستقرار والأمن فـ"المغرب منذ ثلاث سنوات وبمبادرات جلالة الملك وبمساهمة الشعب المغربي قاطبة عشنا ثلاث سنوات من الأمن والاستقرار والطمأنينة وتحسن الوضع الاقتصادي رغم بعض القرارات الصعبة التي اتخذناها، لكن الأمور تسير من حسن إلى أحسن".
خاتما خطابه للخليجيين بالقول "لا تتركوا الأجانب الحقيقيين يسبقونكم إلى بلدكم وإخوانكم في المغرب، فلو كانت الأمور طبيعية، فأنتم لا تحتاجون لا إلى فيزا ولا إلى جواز ولا أي شيء أنتم في أرضكم، وإذا كان هناك أي شيء يزعجكم قولوه لنا، ونحن هنا لتنحيته ولست هنا لكي تجاملوني أو تجاملون من ينوب عني".