يتهافت الإنسان المغربي على باب الإستهلاك هذا يوميا، دون أن يعي بأن عالم الإستهلاك هذا مبني على أساس التلاعب بالكرامة الإنسانية، بل احتقار ملكة الحكم الطبيعية فيه واعتباره ساذجا، بل رضيعا لا يمل ولا يشبع من امتصاص كل ما يُنتج وما يعرض في أسواقه الشعبية وأزقة مدنه العتيقة والمحلات التجارية الفاخرة في الأحياء "الراقية"، التي أصبحت أسواقا قائمة بذاتها، يتنافس على زيارتها ويتباهى بالتبضع منها الكل.
ما لا يعيه الكثيرون عندنا وهم يلجون هذه "الجوامع الإستهلاكية الجديدة" هو أن منطق الإستهلاك، ولكي يضخم أكثر أرباحه، يراهن على إغراق السوق المغربي بأكبر كمية من البضائع المختلفة وعلى تقديم الجديد دائما سواء في الموديلات أو في البضائع الجديدة كليا. ونتيجة هذا هو حدوث حركة استهلاكية دائبة، حتى أصبح ما يهم الناس في قرارات أنفسهم وفي الحديث بينهم، هو تبادل الأخبار عن الجديد في السوق وعن الأثمنة و طريقة الوصول إلى هذا الجديد. أصبح المرء يلمس نوعا جديدا من الطبقات الإجتماعية، مغايرة تماما لما كنا نعهده، توجد في قمة هرم هذه الطبقات الطبقة الإستهلاكية بامتياز، أي نساء ورجال لا يفوتهم أي جديد في السوق؛ ولا يحق للمرء أن يسأل من يكون من الواضح أنه لا يملك بالتأكيد ثمن ما يقتنيه من أين له هذا، لأن "الملكية الخاصة" هي الإلهة الجديدة التي ابتدعتها الرأسمالية: "إن الإقتناء والإمتلاك والربح هي من الحقوق المقدسة للفرد في المجتمع الصناعي. ولا يلعب إشكال مصدر هذا المُلْك ولا ما إذا كان امتلاكه مرتبطا بأية مسؤولية كانت أي دور يُذكر. والمبدأ الشائع في هذا المجال هو: "ليس من حق أي أحد أن يسألني أين وكيف حصلت على ما أملكه أو ماذا أعمل به. إن حقي في هذا الإطار غير محدود ومطلق"".(إريك فروم، الإمتلاك أو الوجود، 1956).
لا يقتصر الإستهلاك على البضائع التيكنولوجية من هواتف محمولة وحاسوبات وألعاب إلكترونية وأدوات منزلية وسيارات إلخ، بل تعداه ليقتحم الثقافة الغذائية للمغربي والمغربية، بكل ما يترتب عن ذلك من مشاكل صحية ونتائج نفسية. لا يفوت متخصص ولو مبتدأ وهو يلاحظ وجوه المارة في شوارعنا مدى انتشار الأمراض النفس-جسدية عندنا، المُسبَّبة في غالبيتها العظمى بلا ما لا يدع مجالا للشك من طرف "ثقافة الإستهلاك". فالوجبات التي تُنعت بـ "الخفيفة" هي في العمق معامل كيماوية، ملغومة بكل أسباب أمراض القلب والشرايين والجهاز الهضمي والتنفسي، لأن نسبة السكر و الملح و الذهنيات وكل الكيماويات التي تُحسن الذوق مرتفعة بدرجة عالية جدا فيها. أصبحت العادات الغذائية للمغربي غريبة عن بيئتها ومحيطها الطبيعي، بل عرفت تغيرا ملحوظا حتى في نظامها الزمني، سواء على مدار السنة أو في اليوم الواحد.
لم تنج الثقافة المغربية من بسط منطق الإستهلاك جناحيه عليها وسلبها ثيابها كعروس فاتنة، لينفرد بها في ركن وجودي لإنتاج ثقافة، ليس لها من هذه الأخيرة إلا الإسم. فالمواسم الأصيلة، التي كانت تعتبر ركيزة ثقافية أساسية للمناطق والقبائل و موعدا سنويا مهما، أصبحت "مهراجانات"، يُراد منها خلق الحدث الثقافي الفريد من نوعه بمضامين غريبة كل الغرابة. أما الثقافة التي تحاول وسائل الإعلام المرئية تمريرها وفرضها، فلا يفوت أي مُغفل للإنتباه بأنها تجره جرا إلى بحر الإستهلاك الأعمى، ببرامج و مسابقات ترفيهية، همها الأساسي هو "تنويم" المشاهد أو المستمع مغناطيسيا في وهم عوالم حياة تُبهره وتوحي له بأن باستطاعة أي أكان أن يصبح نجما في الغناء أو السينما أو حتى الكتابة. ناهيك عن "استعمار" الكثير من المحطات التلفزية الأجنبية لصالونات المغاربة وطبعهم بما يطبع به المواطن الغربي كذلك: "تلقينه" بأن عليه أن يكون "مستهلكا جيدا"، بما أنه أضاع حقه في أن يكون "مواطنا جيدا"، أي منتقدا للأوضاع الإقتصادية والإجتماعية المزرية التي يعيشها.
الإكتئاب المعني بالأمر في هذا المقال، الناتج عن ثقافة الإستهلاك، يجد جذوره في التبعية العمياء لمنطق الإستهلاك وأساليب الحياة التي يفرضها، لهثا في المقام الأول على المزيد من الإقتناء، دون حاجة ضرورية للإستعمال. في هذا السباق الذي لن يهدأ لم يعد المرء يقيم أي تمييز دقيق بين أناه وبين البضاعة، فالإنسان لم يعد ما هو، بل ما يملك، لأن عمق الإمتلاك الإستهلاكي هو إحكام السيطرة على الآخرين، فباقتنائي لشيئ ما، أتوهم بأنني أتحكم في هذا الشيئ، لأنه لي، و أَتَمَاهى مع فكرة امتلاكي له، إلى أن أصبح جزء من هذا الشيئ، أو أنه يصبح جزء مني، إلى أن يظهر في السوق شيئ توهمني وسائل الدعاية الإستهلاكية بأنه أهم من الأول. وهكذا أدور بأناي حول الأشياء دون توقف، وفي هذا الدوران أُضيع ذاتي وأصبح غريبا عن أناي وعن وجودي. وبهذا كله تكون مقادير تهييئ شخصية مكتئبة في مطبخ الإستهلاك قد توفرت.