ولد إيريك فروم يوم 23 مارس في عام 1900 في مدينة فرانكفورت. اشتغل كمحلل نفسي ابتداء من سنة 1926، و التحق بمدرسة فرانكفورت عام 1930، كرئيس لقسم السيكولوجية الإجتماعية. كما أنه كان من أعضاء الدائرة الماركسية للتحليل النفسي إلى جانب فيلهيلم رايخ و أوطو فينيخل. كان مضطرا للهروب من ألمانيا بعد وصول النازيين للحكم، قاصدا أمريكا، حيث عاش طويلا، قبل أن يستقر في الميكسيك و الرجوع النهائي إلى سويسرا، حيث مات يوم 18 مارس 1980.
التحق بالحزب الإشتراكي الأمريكي و شارك في التنظير له و صياغة برامجه الإنتخابية. لكنه اعتزل السياسية ليتفرغ لعيادته و كتاباته و محاضراته الكثيرة. و على الرغم من أنه عاش في أمريكا، فإنه لم يكن مدافعاً على النظام الأمريكي، كما أنه لم يدافع على النظام الشيوعي، على الرغم من أنه كان ماركسيا عتيدا. أكثر من هذا، حتى و إن كان يهودي المولد، فإنه رفض الدفاع عن دولة إسرائيل عند قيامها، لأنه رأى فيها انحرافاً تاماً عن حقيقة اليهودية. بل استشرف النزعة التدميرية للصهيونية، للطريقة التي تأسست بها، لكونهم عندما شرعوا في بناء دولة خاصة بهم تحولوا من "مواضيع ظلم" إلى ممارسين له ضد الآخرين.
كعادته حرص فروم على التوضيح الدقيق للمصطلحات التي يستخدمها، لتجنب الخلط الشائع في الكثير من الكتابات التي اهتمت بالموضوع. ميز بين العنف la violence والعدوانl‘aggréssion والتدميرla destruction . أكد على بديهية لا نقاش فيها، تتمثل في وجود العنف في كل المجتمعات البشرية وتمارسه بأساليب مختلفة. و يعطي أمثلة كثيرة عن هذا كعنف الرجال ضد النساء والكبار ضد الصغار. إلا أن هذا العنف لا يتحول إلى عدوان، لأن له مؤسسات اجتماعية تنظمه وتحدده وتمنع تحوله إلى عدوان. بينما ينتشر العدوان في صفوف نسبة أقل من المجتمعات البشرية. فالعدوان يكون موجهاً إلى الآخر، الذي ينتمي غالباً إلى جماعة مختلفة و هو نوعان:
- عدوان دفاعي، ويقصد به المقاومة التي تصدر عن جماعة ضد عدوان تفرضه عليها جماعة أخرى.
- عدوان هجومي، ويقصد به مبادرة جماعة إلى الهجوم على جماعة أخرى لاحتلال أرضها أو سلب ممتلكاتها والسيطرة عليها أو حتى استعبادها.
يعتبر التدمير في نظره من أشد أنواع العدوان الهجومي تطرفاً و تدميرية. وهو لا يوجد إلا في نسبة قليلة نسبياً من المجتمعات والشخصيات البشرية. وفي نمط العدوان التدميري يكون هدف الجماعة هو قتل الآخر و إبادته، وليس مجرد استغلاله، كما هو الحال في حالة العدوان.
يرى فروم بأن إشكالية النزعة التدميرية بدأت في الظهور في الدراسات الأكاديمية في بداية عشرينيات القرن السابق، أي مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. ففرويد مثلا، و بعد أن شحن نظريته بالتركيز على الغريزة الجنسية، التي ليس لها أي هدف آخر من غير المحافظة على النوع البشري؛ أضاف جديدا إلى هذه النظرية في العشرينيات من القرن الماضي، مؤكدا بأن غريزة الموت تقف على قدم المساواة مع غريزة المحافظة على استمرار حياة النوع البشري. وبهذا دفع بالموت والتدمير إلى مستوى الغريزة.
لم يتغير هذا الموقف إلا في ستينيات القرن الماضي، عندما نشر الباحث كونراد لورنز عام 1966 كتابه الشهير عن العدوان عند الحيوان و عقبه كتاب ديزموند موريس عام 1967. وبهذا انتقلت دراسة العدوان من مجال الغريزة إلى مجال الغريزة-السلوك. و تخصصت السلوكية الأمريكية فيما بعد في دراسة النزعة التدميرية في مجال السلوك وحده، حيث ينتقل التركيز في هذا المذهب من المشاعر إلى السلوكات. فلا قيمة للمشاعر والعواطف والغرائز بالنسبة له إن لم تتحول إلى سلوك، و هذا ما دافع عنه سكينر، أكبر أعمدة المذهب السلوكي.
حاول فروم في دراسته للنزعة التدميرية عند الإنسان تصحيح و تجاوز نظرية فرويد- لورنز و نظرية سكينر. وقعت كلتا النظريتين في نظره في خطأ الخلط بين العنف والعدوان والتدمير. و الصحيح هو أن هناك نوع من العنف يتشابه فيه الإنسان مع بقية الحيوانات والكائنات الحية، إلا أن هناك نوع آخر يتميز به الإنسان عن بقية هذه الكائنات.
يؤكد فروم مثلا بأن كل أشكال العنف عند الحيوان تهدف إلى فرض السيطرة و الإنفراد بالزعامة أو إشباع الحاجة البيولوجية أو الغريزية، لكنها لا تهدف إلى التدمير الممنهج و المقصود. أما الإنسان فإنه الكائن الوحيد القادر على إتيان عمليات عدوان تدمير قصدية في سلوكات مثل التعذيب و القتل، لا لشيئ إلا للمتعة في القتل والتعذيب. و هي أمور تكاد تختفي في عالم الحيوان كليةً. بل إن هذه النزعة تكاد تختفي في أغلب الحضارات البشرية البدائية.
يؤكد فروم بأن دراسة التاريخ تبعث على اليأس، فيما تبعث دراسة ما قبل التاريخ على الأمل. فالنزعة التدميرية غائبة مثلا عند العديد من القبائل البدائية في أستراليا والهند وأمريكا الشمالية، و هذا ما يُثبت في نظره بأن النزعة التخريبية ليست غريزية لدى كل القبائل والحضارات البشرية، بل مرتبطة بشكل ومرحلة الحضارة التي يحيا في كنفها. من هنا كانت خلاصته تتلخص في كون العنف ليس ملازماً للإنسان أو الحيوان ملازمة الغريزة. فالعنف غير كامن في غرائز الإنسان في كل مكان وزمان. فلا يظهر العنف، وبخاصة في جانبه التدميري، إلا في ظروف زمانية وحضارية معينة
من المتفق عليه بين علماء الأنثروبولوجيا أن مراحل تطور المجتمعات البشرية بدأت بالإلتقاط ثم الصيد و لو يتوصل للزراعة إلا في مرحلة متأخرة، لينتهي به المطاف بالتصنيع. بدأت البشرية بمرحلة الأموسية التي تشبه مجتمعات النحل، حيث الأنثى الأم هي محور الأسرة والمجتمع، و كان دور الذكر يتلخص في مساعدة الأم على الإنجاب. ثم انتقلت المجتمعات البشرية إلى المرحلة الأبيسية التي نعيشها حالياً.
يلاحظ فروم اختلافات كثيرة بين كل هذه المراحل. يمكن مثلاً ملاحظة تعادل صورة الأم مع الأب في فنون الحضارة الفرعونية، التي يُرَجَّحُ أن تكون قد شهدت بداية الانقلاب من المجتمع الأموسي إلى المجتمع الأبيسي، بعد فترة من المساواة بينهما. كما أن أنماط ا الأموسية بشكل عام ويكاد يختفي منها نوع العدوان التدميري تماماً، كما هو الأمر في مجتمع الأسكيمو. أما المجتمعات الأبيسية فيتحول فيها العنف إلى التدمير وينتشر فيها التخريب والتعذيب والقتل لمتعة القتل، كما نجد ذلك عند شعوب الأزتيك والتروبرياند.
بعد كل هذه التحاليل يرجع فروم لإشكالية النزعة التدميرية، محاولا فهمها و صبر أغوار أسبابها. و يشير مثلا إلى أن مجتمع النحل يقتل الذكور، حفاظاً على تراكمات العسل للملكة والشغيلة وحدهن. ومثل هذا قد يحدث في بعض المجتمعات البشرية التي تحرص على تراكم وتخزين الثروة وتخصيصها لفئات معينة دون فئات أخرى، وخاصة إذا ما كان إنتاجها يخضع لعملية مضنية ولاعتبارات الندرة لا الوفرة، وفق المقياس العمري للفرد الواحد. و هكذا تتواكب مستويات العنف وأنواعه في المجتمعات البشرية مع عوامل كثيرة منها ندرة الثروة ونمط إنتاجها و تراكمها وتخزينها. فمن المعروف أن حروب المجتمع القديم كانت تهدف إلى استعباد الشعوب المهزومة لتجبرهم على العمل في إنتاج الثروة للشعوب المنتصرة. وما زال هذا النمط سائداً في كثير من المجتمعات الحالية تحت مسميات مختلفة.
لكن عندما تصل الحضارة إلى مرحلة من تراكم الثروة لا تحتاج معها إلى مزيد من القوة العاملة للعبيد، فإنها تتحول إلى تخزين الثروة والتصارع على توزيعها، بدلاً من إنتاجها وتنميتها. وتلك هي حالة الحضارة المعاصرة. وهنا ينتقل العنف إلى أقصاه المدمر. فتعمل جماعة للتنكيل بجماعة أخرى. و لا تقتصر تبريرات القتل على ذكر المصالح الاقتصادية فحسب، كما كان الحال في المجتمعات البدائية، بل تتضمن هده التبريرات مزيجاً من الاعتبارات السياسية والنفسية والاجتماعية والدينية والجغرافية والتاريخية، التي يُشِيعُهَا مؤيدو الدمار.
و هنا نصل إلى الأهمية القصوى لهذه الدراسة في وقتنا الحاضر، فقد تساعدنا على فهم التدمير الذي تتعرض له الشعوب العربية الإسلامية، سواء على يد القوى الكولونيالية أو على يد أبناء جلدتها، من كل الطوائف و التوجهات الأيديولوجية. إلى أين تُقاد هذه الشعوب؟ أهي في طريقها إلى مجزرة التاريخ؟ إن كل الشروط مجتمعة في هذه الشعوب لكي تذوب في سلة مهملات البشرية، نظرا لعنف النزعة التدميرية التي تُمارس عليها، و لربما كان نزار قباني على حق عندما عنون قصيدة من قصائده: "متى يعلنون عن موت العرب؟".