الجِراحُ اليومية التي تسببها لها زميلات الفصل وهُنّ يهزأن من فَقْرِهَا ويُحولن وضعها الاجتماعي إلى موضوعٍ دائم للسخرية.
التلميذة التي تقطن حيا صفيحياً بالعاصمة الاقتصادية، أصبحت عاجزة عن مواجهة الإيماءات والتلميحات والتصريحات، التي تُعيّرها بالفقر والحاجة، وبمَسكن أُسرتها، فما كان عليها إلا أن اختارت وضع حد لحياة في خُطواتها الأولى.
ما أقدمت عليه بنت الخامس عشر ربيعا ليس حلا. لم يكن الفقر يوما سببا ولا مُبرراً للإنتحار. ولم تكن الحاجَةُ يوماً شتيمة ولا سُبّة ولا مدعاة للتهكم. لكن هل يكفي أن نقول هذا لنَمُر بسرعة إلى خبر آخر أقل ألما وقسوة. هل يكفي أن نُلقي في وجه هذا الخبر الحزين موعظة صغيرة، ثم نبحث في الصفحات الموالية عن خبرٍ أقل مرارة من قهوة الصباح، خبر جدير ببداية مُنعشة ليوم سعيد؟
ثمة خيارٌ آخر: أن نُصدق عالم النفس وهو يتحدث، بثقةٍ، عن هشاشات المراهقة، عن ضعف المواكبة الاجتماعية، عن غياب مراكز الإنصات بالأحياء، وعن افتقاد أخصائيات التنشئة بالثانويات.
يُمكننا كذلك أن نصيخ السمع لمحللي الإذاعات الخاصة، وهم يقدمون، مُباشرة على الهواء، تحاليلهم السريعة حول علاقة الحالات المعاصرة للاكتئاب الحاد، بتحولات المناخ، بالحرارة الطارئة على الأسابيع الأخيرة من هذا الربيع القصير.
لكنني اُفضل أن أبحث قليلا عن حصتنا المُشتركة من المسؤولية في هذا الحدث الأليم العابر!
مسؤولية من يعتبر أن سكن مواطنين وأسر وأطفال وأمهات وعجزة، في أكواخ العار والبؤس، في البيوت الواطئة التي لا تدخلها الشمس ولا الكرامة، أمرٌ يعود في النهاية إلى مشيئة السماء، إلى حتمية القدر وعبثية الحظ!
مسؤولية من توقف عن التفكير في المدرسة العمومية كفضاء للإدماج الاجتماعي، ولبناء الهوية الوطنية التي تتجاوز الانتماءات الطبقية، وتُذوب الفروقات الاجتماعية.
مسؤولية من يتاجر في البؤس، ويستثمر في أحزمة البؤساء، لتأبيد الجيوب الانتخابية الضرورية للترقي، ولتمويل شروط السعادة ومصاريف دراسة صغيراته في مدارس البعثة الأجنبية.
مسؤولية من حوّل اعتمادات القضاء على الحي العشوائي، لبناء ڤيلا السكن الثانوي على الشاطئ الذهبي للمتوسط .
مسؤولية من يُغذي التفاوتات الطبقية الصارخة، بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون غير الحزن والخيبات.
كلهم / كلنا مسؤولون عن اغتيال الأمل في عُمر الزهور، عن انتصار اليأس في عز سنوات العنفوان.
فقد كان يُمكن لمريم أن تُصبح معلمة أطفال، تدرسهم حروف المحبة، وتعلمهم تربية الأحلام. كان يمكنها أن تُصبح ميسورة لتحكي بلا عُقدٍ كيف قاومت الحرمان، ولتُحرض الفقراء على مغامرة الحياة. كان يمكنها أن تُصبح كاتبة، رسامة أو شاعرة تمنح الناس أسبابا مضافة للأمل. كان يمكنها أن تصبح أُمّاً لتكتشف بالتجربة كمّ الحنان الجارف الذي أحاطها دون أن تُدركه في إبانه.
كان يمكنها الكثير. لكنها فضلت فقط، أن تَعْبُر إلى حياة أُخرى، حيث لا أحد يجرأ على مناداتها: «بَـنْـت الكاريان»!.
«لا شئ يجعلك عظيما إلا ألم عظيم. ليس كل سقوط نهاية، فسقوط المطر أجمل نهاية»، هكذا كتبت التلميذة في رسالتها الأخيرة.
لا شيء عظيمٌ في الحكاية؛ مريمُ.
ليس ثمة سوى الألم، وسقوطنا المدوي في البؤس واضطهاد الفقراء!