أذكر أنني ـ في أواسط التسعينيات ـ حملت كتاب أحمد عصيد "الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي" إلى شيخنا عبد السلام الخرشي ـ رحمه الله ـ بعد أن أثارني النقد الجارح الذي وجهه الكاتب للصحابة على اعتبار أنهم غزاة، لا يهمّهم إلا استغلال الشعوب وطمس هويتها، ونشر العروبة..إلخ
إلا أن شيخنا السلفي، المعروف بصرامته في النقد، وعدم تساهله مع المخالف إذا لم يضبط حجته، فاجأني وهو يعدد التهم والجرائم التي وقف عليها بنفسه في إهانة "الشلوح" والاعتداء عليهم، ما جعل ردة فعلهم تصل فيما بعد إلى مستويات ربما تكون مبالغا فيها،وأخذ يلتمس لهم الأعذار، وطوينا الموضوع، ولم أعد لمناقشته معه وأنا أعلم أنه ليس أمازيغيا، على الأقل في أصوله القريبة.
هذه حقيقة ماثلة أمام أعيننا اليوم، اليهود أهينوا وظلموا واعتدي على حقوقهم وشرّدوا، فلمّا أغناهم الله ومكن لهم في الأرض تجاوزا الحدود في إعادة الاعتبار لأنفسهم، وفرضوا قوانين دولية تجرّم كل من ينتقدهم بدعوى معاداة السامية.
المرأة ظلمت في التاريخ القديم والمعاصر من طرف الرجل والمجتمع والدولة، وأهينت كرامتها، واتخذت سلعة من أجل المتعة أو التجارة، بل كانت الجاهلية العربية تئدها (أي تدفنها حية) وهي طفلة، والجاهلية الغربية إلى وقت قريب كانت تناقش في مجامعها هل للمرأة روح مثل الرجل أم لا؟ هل هي حيوان أم إنسان؟ فلما تكتّلت مع شقيقاتها وناضلت من أجل إعادة الاعتبار لجنسها من بنات حوّاء، تجاوزت الحدود حتى تخلت عن وظائفها الطبيعية وأدوارها المجتمعية واعتبرتها أدوارا نمطية فرضتها العقلية الذكورية.
وهكذا التطرف والظلم يورث تطرفا مضادا وظلما في الاتجاه الآخر، والمعصوم من عصمه الله.
ابن الموقت وتوظيف النكتة في نقد المجتمع
يعتبر ابن الموقت، المسفيوي أصلا، المراكشي ولادة ونشأة، من الأعلام المغاربة القلائل الذين أخذوا على عاتقهم وضع اللبنات الأولى لمشروع الإصلاح الاجتماعي بالمغرب، منذ فترة الاستعمار، بعد دراسة ونقد معمّقين للمجتمع المغربي، ورصد مواطن الخلل فيه؛ وقد عاش ابن الموقت بين مرحلتين: مرحلة التجديد والمحافظة، وواكب تطورات النهضة العربية والإسلامية منذ بداية القرن الماضي، والفترة التي عاش فيها عرفت عدة مخاضات: صراعات اجتماعية بين التقليد والتجديد، وبين التطور والمحافظة، وبين العمل الوطني والخيانة، بين العلماء السلفيين وشيوخ الزوايا؛ وفي هذه الظروف اشتهر ابن الموقت بحمله للواء الإصلاح؛ ولمّا ترجم له الأستاذ حسن جلاب، اعتبره أعلم علماء زمانه.
من أهم مؤلفاته، التي أثارت الباحثين، وخصصت لها عدة ندوات وأطروحات جامعية: "الرحلة المراكشية"، وهو كتاب فريد، خرج إلى الوجود في الثلاثينات من القرن الماضي، وأعدنا طبعه مع مطلع هذا القرن مع مقدمة وتحقيق؛ موضوع الرحلة هو نقد المجتمع المغربي، بعوائده وأعرافه ومعتقداته وطرقه الصوفية؛ وهو أيضا نقد للسلطة والقضاة والنخبة وطرق التعليم العتيقة وتقليد الأجنبي..إلخ
وأحيانا كان ابن الموقت يوظف النكتة في عملية النقد، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
ـ في نقده للطرق الصوفية وأرباب الزوايا الذين اتخذوا المشيخة من أجل اقتناص الدنيا، يقول:
"وبينما نحن في الطريق، إذ مرّ بنا رجل مطوّق بسبحة غليظة في عنقه (كنية عن الدرقاوي)، فقال له بعض المارّين: بعني سبحتك؛ فقال له الشيخ: إذا باع الصياد شبكته، فبأي شيء يصيد؟"(ص 387).
ـ في نقده للقضاة الذين يحكمون عن جهل قال:
"جاءت امرأة إلى قاض، وقالت إن زوجي إذا قدمت له المائدة قلب الخوان وأكل على ظهرها، فقال القاضي دعيه يأكل كيفما أراد؛ فقالت إنما عنيت أنه لا يأخذ في الطريق السوي، فقال دعيه يمشي كيف شاء، فالأرض كلها لله؛ فقالت إنما عنيت أنه يأتيني في أستي (أي دبري) يا أحمق..".(ص 404).
ـ وعن القضاة المرتشين يحكي:
"بينما نحن في الطريق، إذ بقائل يقول للآخر توجهت البارحة إلى دار القاضي فلان، واستصحبت معي قوالب سكر وفراريج وسمن من أجل قضيتي التي طالت مدتها، فبشّ في وجهي، وواعدني بأن ينصرني على خصمي، فأحضره، وجلست مع الخصم، وأظهر من تأييد حججي ما سرّني، وظننت أن القضية ستتم قريبا؛ ثم بعد مدة قريبة حضرنا بين يديه، وواجهني بعكس ما تقدم، حتى أيست من نجاح القضية؛ فذكرته بهديتي؛ وقلت أيها القاضي: حجتي واضحة أقوى من طيران الفراريج وما معها؛ فقال لي بصوت عال: قم يا جهول عني، فحجته أغلى من حجتك؛ وأضوأ من سرج على منارة".(ص 390).
ـ وحكى أيضا أن امرأة أتت القاضي فقالت مات زوجي وترك أبويه وولدا وامرأة وأهلا وله مال؛ فقال القاضي: لأبويه الثكل، ولولده اليتم، ولامرأته الخلف، وأهله القلة والذلة، والمال يحمل إلينا حتى لا تقع بينكم الخصومة".(ص 375).
وعن انتشار الفساد والديوثة والزنا والفواحش:
ـ حكى أن رجلا دخل على امرأته، فرأى عندها رجلا كانت تعرف به، فقال له الزوج: أقلل الاجتماع بها، فإن الناس يذكرونك بها، فقال له: لا يجوز لهم ذلك "؛
ـ وحكى أيضا : كان رجل يأتي امرأة، فقالت له يوما: إن الناس يتهمونني بك، فقال ما عليك أن تؤجري ويأثموا" (ص 406).
وحكى في الجهل والخرافة التي كانت منتشرة:
ـ أن قاض قال: ما من قطرة تسقط من السماء إلا معها ملك يضعها في موضعها ثم يصعد؛ فقيل له: والقطرة التي تقع في الكنيف (أي المرحاض) يدخل معها الملك؟ فقال: إن في الملائكة كنّاسين كما في الناس"؛
ـ وقال آخر: " الرعد ملك أصغر من نحلة وأعظم من زنبور؛ فقيل له: لعلك تريد أصغر من زنبور وأعظم من نحلة، فقال لو كان كذا لم يكن بعجب" (ص 375).
ـ وعن مثالب القرّاء الذين يعلمون الصبيان القرآن، قال:
"بلغنا عن مؤدب لقّن صبيا: ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابنيّ لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا، وأكيد كيدا، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا)؛ فقيل له ما هذا؟ فقال إن أباه يدخل المشاهرة شهرا في شهر، وأنا أدخله من سورة إلى سورة لئلا يحصل على شيء، كما لا أحصل أنا على شيء.." (ص 333).
وفي جهل البدو بعظم فرضية الصلاة حكى:
ـ أن امرأة صالحة كانت تكره ابنها على الطهارة والصلاة وهو يأبى، فألحّت عليه، فقل أرضى بإحداهما، فقالت رضيت بالطهارة، فلما تطهّر، قالت له صلّ، فالطهارة بلا صلاة ليست بشيء، فضرط (أي تنفّس) وقال: نقضت فنقضنا" (ص 372).
ـ دخل بدوي للحاضرة، فقام يصلي في الصف الأول مع الإمام، فقرأ الإمام (ألم نهلك الأوّلين) فتأخر إلى الصف الآخر، فقال (ثم نتبعهم الآخرين)، فخرج من المسجد وهو يقول: يا ابن الفاعلة أهلكت الفريقين.."(ص372).
وبعد فهذه بعض النكت التي اقتنصتها من الرحلة المراكشية للعلامة ابن الموقت المراكشي، وهو أمازيغي، ومن أراد المزيد فليرجع إليها؛ ولو رجعنا للمعسول للعلامة المختار السوسي لعثرنا على ما يشبه ذلك.
لا أعرف السياق الذي وردت فيه نكتة أخينا أبو زيد المقرئ، والذي أعلمه أن أهل سوس أهل كرم وضيافة، وهم أبعد ما يكون عن البخل، عكس ما يظن البعض، ولعل اهتمامهم بتنمية تجارتهم وأموالهم جرّ عليهم مثل هذه الإشاعات، وهي لا أصل لها في الواقع؛ وعلى كل حال فأخونا المقرئ أبو زيد لا يجهل قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب).
والمقرئ صاحب دعابة يخلطها بمحاضراته القيمة حتى لا يملّ المستمع من متابعتها لأنها تكون طويلة وشيقة، فهو إذا استرسل في حديثه، كأنه نهر جار؛ وهذا في تقديري السبب الرئيس في منعه من الظهور على الشاشة المغربية بمختلف قنواتها؛ فهو يشدّ إليه السامع بقوة.