القائمة

الرأي

ظاهرة البكاء في المسَاجد

انتشرت ظاهرة البكاء في المساجد منذ أن تفتقت "عبقرية" بعض أئمة السعودية الوهابيين على فعل ذلك سواء في الحرم المكي، أو في التسجيلات الصوتية على أشرطة الدعاء والأقراص المدمجة التي تباع في الأسواق، تتضمن التسجيلات أدعية بأصوات الدعاة والأئمة وهم يشهقون ويبكون وتتقطع أصواتهم من تأثير العبرات والزفرات، وقام العديد من المواطنين بتسجيل ذلك على هواتفهم، فكلما تمّ الاتصال بأحدهم سمعت هاتفه ينطلق بدعاء الإمام البكّاء النوّاح، وازدحم الناس على المساجد التي يخطب في منابرها الأئمة البكائون حيث يتنادون إليها ويمتدحون خطباءها باعتبارهم أهل صدق وورع وإيمان حقيقي، كيف لا وهم ينجحون في إبكاء الناس واستدرار دموعهم ؟ وصار الأمر كأنه اعتيادي لا يثير الاهتمام، بينما نحن بصدد ظاهرة بحاجة إلى تعليق وتحليل، لأنها لم تكن بمحض الصدفة، بل ترتبط في الواقع بـ"تقاليد عريقة" ذات جذور في التاريخ.

انتشرت ظاهرة البكاء في المساجد منذ أن تفتقت "عبقرية" بعض أئمة السعودية الوهابيين على فعل ذلك سواء في الحرم المكي، أو في التسجيلات الصوتية على أشرطة الدعاء والأقراص المدمجة التي تباع في الأسواق، تتضمن التسجيلات أدعية بأصوات الدعاة والأئمة وهم يشهقون ويبكون وتتقطع أصواتهم من تأثير العبرات والزفرات، وقام العديد من المواطنين بتسجيل ذلك على هواتفهم، فكلما تمّ الاتصال بأحدهم سمعت هاتفه ينطلق بدعاء الإمام البكّاء النوّاح، وازدحم الناس على المساجد التي يخطب في منابرها الأئمة البكائون حيث يتنادون إليها ويمتدحون خطباءها باعتبارهم أهل صدق وورع وإيمان حقيقي، كيف لا وهم ينجحون في إبكاء الناس واستدرار دموعهم ؟ وصار الأمر كأنه اعتيادي لا يثير الاهتمام، بينما نحن بصدد ظاهرة بحاجة إلى تعليق وتحليل، لأنها لم تكن بمحض الصدفة، بل ترتبط في الواقع بـ"تقاليد عريقة" ذات جذور في التاريخ.

نشر
DR
مدة القراءة: 5'

عرف المسلمون ظاهرة البكاء في المساجد في عصور الانحطاط، وازدهرت بسبب اشتداد الضائقة وانتشار الظلم واستبداد الحكام وكثرة الأوبئة والمجاعات والكوارث الطبيعية، لهذا كان المسلمون يجدون في المساجد بعض العزاء المطلوب حين يلتفّون حول خطيب مفوه يرثي لحال الأمة ويذكر هوان الناس ثم يرفع أكفه بالدّعاء فتنهمر دموعه ويبكي معه كل من حضر الخطبة، ويخرج الناس وينتشرون في الأرض وقد خفّ بعض شعورهم بالقهر والظلم والخوف.

عندما نقوم بتحليل خطب بعض الأئمة اليوم، عند العبارات التي ينطلق فيها الإمام في البكاء، فسنجد أنها تتعلق جميعها بواقع الدول الإسلامية المتخلفة والضعيفة، والتي لم يعد لها من وزن وسط الأمم القوية التي تقود الحضارة، حيث يتم التركيز على "العدوان" و"البغي" و"الاستكبار العالمي" و"إسرائيل" كما يرثى لحال المسلمين الذي تطبعه الفرقة والتشرذم، فالأمر إذن يتعلق بوضعية التبعية الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والعلمية للدول المتقدمة، وهي وضعية سببها التأخر التاريخي الذي عاشته الدول الإسلامية منذ العصور الوسطى، حيث تحولت القوة العسكرية لجيوش الخلافة إلى انكماش عقب هزائم متوالية، كما تغيرت الطرق والمسالك التجارية والرهانات المختلفة، وانطلقت الثورات العلمية في الغرب وكذا حركة الاكتشافات الكبرى عبر العالم، وظهرت الجامعات العصرية وانطلق مسلسل الإصلاح الديني ثم الثورات الاجتماعية والسياسية، لينتهي كل ذلك المخاض إلى تشكيل عالم جديد لم تعد فيه أسباب النهضة والقوة هي ما كانت عليه، (الحروب الدينية / الاستبداد السياسي / اقتصاد الريع القائم على الغنيمة والغزو) بل صارت هي العقلانية العلمية وحقوق الإنسان، مما أدى إلى تمركز القوة العسكرية والعلمية والاقتصادية بين يدي العالم الغربي، وجعل العالم الإسلامي في ذيل القافلة.

وقد واجه المسلمون واقعهم المتردي في البداية في ظل الاستعمار ـ وذلك خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين ـ بالاعتراف بتخلفهم والتساؤل عن أسبابه (لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم ؟) مع محمد عبده والأفغاني والكواكبي ورشيد رضا، لكنهم سرعان ما انعطفوا مع "الإخوان المسلمين" في طريق مسدود يعتمد هجاء الغرب ونعته بالانحلال واعتبار المسلمين "حاملي رسالة" نورانية يعلم الجميع أنهم ليسوا مؤهلين لحملها ولا لتبليغها لأي كان، بحكم تغير موازين القوى ومعايير التفوق الحضاري وبسبب أوضاع التخلف القاهرة التي يتخبطون فيها.

ثم جاء البترودولار الذي أنعش الوهابية ونمط التدين البدوي فكان القطرة التي أفاضت الكأس، ليواصل المسلمون انحدارهم نحو الحضيض الأسفل، مما يفسر يأسهم من الخروج من الضائقة الحضارية التي تشتدّ يوما عن يوم، ولجوءهم إلى البكاء والنواح، وزاد الطين بلة ظهور الإرهاب باسم الدين الإسلامي وانتشار الخلايا النائمة واليقظة وتفاقم الأوضاع المزرية للعديد من البلدان التي ما فتئت تتجه نحو الكارثة والخراب الشامل.

لعبت العربية السعودية دورا كبيرا في هذا المشهد الكئيب، فهي التي أنفقت ملايير الدولارات على نشر نمط تديّن ذي نزعة حربية لا توافق العصر ولا أسباب التطور، وجلبت بأموالها الجيوش الأمريكية إلى الخليج، وهي التي ساندت تخريب العراق واعترضت طريق الثورات خوفا من الزحف الديمقراطي على العشائر النفطية الخليجية، وأنفقت الكثير من المال لإزعاج الدول المزدهرة والتي تنعم باستقرار أساسه الديمقراطية السياسية والاجتماعية والرفاه الاقتصادي وحقوق الإنسان، وهي اليوم تبذل الغالي والنفيس من أجل ألا يستقرّ حال سوريا حتى ولو اقتضى الأمر خراب البلد بكامله وهلاك أهله.

نفهم من هذا ما وراء بكاء الدعاة السعوديين والوهابيين، فالبكاء يصرف النظر عن موطن الداء الذي هو عقر دار المسلمين، كما ينحي باللائمة على الغير المسئول الأول والأخير، ويجعل الأمر من جانب آخر كما لو أنه قضاء وقدر من الله الذي غضب على الأمة وشاء لها هذا المصير المشئوم.

من جانب آخر وجد القادة والحكام في بكاء الدعاة والأئمة ضالتهم، حيث انتقلت الظاهرة إلى مختلف بلدان العالم الإسلامي، وأصبحت عزاء للناس وتلهية وتفريغا للمكبوت السياسي والاجتماعي، فبعدما تقوم السلطة بخرق حقوق الناس الأساسية والدّوس على كرامتهم تترك لهم حق البكاء الجماعي في المساجد، للترويح عن النفس وتخفيف الأعباء والضغوط اليومية للسياسة الحكومية، ومنها بلع الزيادات المتوالية التي ألهبت جيوب المواطنين.

منبر

أحمد عصيد
باحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية
أحمد عصيد