القائمة

الرأي

معنى "تقاليدنا العريقة" و"قيمنا الأصيلة"

من الأمور المتداولة في النقاش العمومي والخطاب الرسمي عبارة "تقاليدنا العريقة" أو "قيمنا الأصيلة" و"ثوابت الأمة" التي تستعمل عادة من أجل معاكسة حقوق الإنسان والقيم الكونية وعرقلة الانتقال نحو الديمقراطية، وبهدف الحفاظ على مصالح الجهات المستفيدة من الوضع القائم، الموسوم في الكثير من المجالات باللاّمساواة واحتقار الإنسان وهدر كرامته وحريته.

نشر
DR
مدة القراءة: 4'

وعندما نتفحص ما يراد بـ"التقاليد العريقة" أو ما يدعى بـ"الثوابت" نجد أنها ترجع في غالبيتها إلى الدين الإسلامي، الذي ما يزال يُستعمل بشكل مكثف في حقل الشرعية السياسية، وبقصد شرعنة العديد من السلوكات والمواقف والقوانين التي أصبحت من الناحية القيمية متعارضة مع مكتسبات الإنسانية في عصرنا، من أجل تحصين مراكز النفوذ في الدولة وإبقاء الوضع على ما هو عليه فيما يخصّ علاقة السلطة بالمجتمع وآليات اشتغال المؤسسات وطرق تدبير العديد من الملفات والقطاعات والقضايا.

وزاد من استفحال هذه الظاهرة وتبعاتها السلبية اعتماد التيار المحافظ الإسلاموي بنوعيه الإخواني والسلفي على هذه العبارة المفترى عليها "تقاليدنا العريقة" و"قيمنا الأصيلة"، من أجل الدفاع عن منظور ماضوي للمجتمع وللإنسان المسلم، الذي يبدو في أطروحات هؤلاء أنه بسبب إسلامه ينبغي أن يظلّ محروما من ثمرات الحضارة المعاصرة ومكتسباتها الإنسانية.

وما لا ينتبه إليه في أشكال استعمال هذه العبارات أنها تنطوي على اختزال كبير لمعنى التقاليد والعادات والقيم الأصيلة، فالباحث الأنثروبولوجي أو المؤرخ النزيه يعلمان أن الكثير من تقاليدنا العريقة وقيمنا الأصيلة ليست بالضرورة دينية ولا هي تعني الدين أصلا، ومنها الكثير من التقاليد والعادات التي كان بعض رجال الدين المتشدّدين يندّدون بها دون أن يتخلى عنها المجتمع بل على العكس من ذلك تشبث بها غاية التشبث وكرسها في سلوكاته وحياته اليومية، ومثال ذلك أنواع الرقص الجماعي المختلط كأحواش وأحيدوس وأنواع الفنون وتقاليد المعاريف والمواسم والتقاليد الإفريقية والمتوسطية واليهودية والصحراوية، وكذا قيم التسيير وتنظيم الجماعة المحلية من قوانين وضعية وأعراف لم تكن دينية ولا لها صلة بالدين كمثل الحكم على السارق بالغرامة عوض قطع يده وكمثل نفي القاتل عوض قتله وكمثل تغريم العنف ضدّ النساء واقتسام الأموال المكتسبة بين الرجل والمرأة والفصل بين الديني والدنيوي باعتبار الدين أمرا شخصيا وليس منطلقا لتدبير الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للجماعة التي كان تدبيرها موكولا لمؤسسة "أمغار" ولمجلس التسيير الجماعي "إنفلاس"، هذا المجلس الذي لم يكن إمام المسجد يعتبر عضوا فيه أو طرفا، حيث كان الإمام هو المرجع في الأمور الدينية والأحوال الشخصية لا غير، أما الحكم في الخلافات السياسية وفي تدبير الثروات وتوزيع المياه والفصل في الخصومات إلى غير ذلك من الأمور فكان يرجع فيه إلى القوانين العرفية الأمازيغية وإلى المجلس المذكور، هذا قبل مجيء الفرنسيين بقرون طويلة، وقبل اصطدام المغرب بنموذج الدولة الحديثة.

ما الذي أدى إذن إلى احتكار البعض لمعنى التقاليد العريقة والأصالة واختزالها في الدين أو بتعبير أصحّ في "نمط من التدين" يتميز بالغلو والتشدّد؟ إنه جهل المغاربة بتراثهم الثقافي والحضاري الغني والذي نتج عن التعليم والإعلام اللذين اعتمدتهما السلطة المركزية في المغرب على مدى نصف قرن، في إطار المرجعية النظرية والفكرية التي أرستها "الحركة الوطنية"، والتي اختزلت الكيان المغربي في "العروبة والإسلام" فقط ، وغيبت كل المكونات الأخرى التي اعتبرتها مهدّدة لوحدة البلاد ولقوة الدولة الوطنية المركزية، مما سمح للسلطة وللتيار المحافظ والسلفي بأن يحتكر معنى الأصالة ويستأثر بالحديث عن القيم التقليدية مختزلا إياها في نمط من التديّن لم يعهده المغاربة، حيث يروّج هؤلاء في الحقيقة لقيم دينية غير القيم المغربية التي تعايش فيها الدين مع الثقافية الأصلية للسكان ومع الكثير من المكونات الأخرى تعايشا سلميا عبر التاريخ.

إنّ الهدف من احتكار معنى التقاليد واختزالها في نمط التديّن الإخواني المصري أو الوهابي السعودي اللذين لا علاقة لهما بتقاليدنا العريقة بمعناها الشامل والواقعي ولا بأصالتنا ، إنما هو التأسيس للدولة الدينية على النمط الشرقي الاستبدادي الذي لا يمكن أن تقوم له قائمة في مغرب اليوم، لأن التاريخ لا يعود إلى الوراء.

يدعونا هذا إلى العناية بتقاليدنا وقيمنا الأصيلة بكل مكوناتها ذات النزعة الإنسانية المنفتحة، والتي نجد أن قيمها تتطابق مع الكثير من قيم حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، واعتماد العبقرية المغربية التي تشكلت عبر التاريخ من أجل مواجهة تهديد التطرف الديني الذي أصبح يندر بخراب الأوطان والعمران.

منبر

أحمد عصيد
باحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية
أحمد عصيد