القائمة

الرأي

الدولة الإسلامية الأولى

هذا أول مقال من سلسلة مقالات: "الدولة الإسلامية"، حيث سأعمد من خلال هذه السلسلة إلى استنباط دستورها من القرآن. لا تحديا بقدر ما هو ذكرى للذاكرين، ولا تجاوزا لطاقاتي بما أنه من آيات محكمات لم يختلف العلماء في شرحهن وأحاديث من الصحيحين. وكمقدمة يأتي مقال: "الدولة الإسلامية الأولى"، كتمحيص للتاريخ بالمنطق، حتى أوقف المدعين عند حدهم وؤأكد بالفكر أن الإسلام أتى لتقام به الدولة، كأكبر منظومة بشرية يمكنها أن تحكم الأفراد، وأن الدولة يمكن أن تقام بالإسلام كشريعة سياسية اقتصادية قضائية ومدنية تضمن الحرية والتعددية والحقوق كمصفاة تنتقي ما ينفع الناس.

نشر
DR
مدة القراءة: 6'

باسم الله أبدأ بتوفيق من الله

فالبداية توفيق.. والاسترسال في الأمر تصديق.. ثم سنة الأشياء أن يبلغ الشيء منتهاه

وصلاة الله على الحبيب محمد إذ بنظرة إلى قلبه الرحيم على كافة الناس اصطفاه

توكلت على من بيده الخير كله.. علانيته وسره.. ليقيم لي في الكلم الحكم ويجيرني من زلات قلب في هواه

واستمسكت بالركن الشديد من أن أزل أو أضل راجية بما أخط إحقاق الحق نصرة للدين قربة إلى رب العالمين طمعا في مغفرته ورضاه

وأما بعد،

فإن الدين عند الله الإسلام، وما أسلم الناس في قريش والمدينة عند نزول الوحي كرها وترهيبا، إنما أسلموا والإسلام بين الضعفاء محمول والكفر بالقوة موصول قناعة بالحق حين جاء الحق ليدمغ الباطل ويعيد مجمتع الجاهلية تنقية وترتيبا. فالحق حين يلمس الأفئدة التواقة إليه الناكرة للباطل تعرفه، والنور حين يقترب من القلوب الباحثة عنه الكارهة للضلالة تلقفه، إذ هي الفطرة البشرية تتبع ما خلقت لأجله لتسكن إليه في تواضع وسلم، ولا يمنعها عن اتباع الحق إلا كبر النفس ودسها في الجهالة عن علم.

ومنذ أن بزغ الإسلام في قريش لأول وهلة... فهم سادات قريش أن الإسلام دين ستقام به الدولة.

فاصدع بما تومر

وإلا، لما شكل الجهر بالإسلام وهو في مهده يصحح العقيدة من الكفر إلى التوحيد، دون مساس بالسلطة ولا مطالبا في الرياسة التجديد، عند قريش ورجالاتها عبيدا وأسيادا، تهديدا لما كانت تقوم عليه قريش حكامة وسياسة واقتصادا. ولو لم يحس سادة قريش على سلطتهم بالتهديد من جراء ذلك الجهر، لما عذبوا أتباع الهدي المحمدي وطالبوهم إما بإسرار عقيدتهم أو الرجوع إلى الكفر.

وهذا دليل على فهم دامغ من لدن سادة قريش وغيرها من القبائل، أن تلك العقيدة القوية المتينة المنبية على توحيد الخالق وعبادته والتسليم له كل التسليم دون وساطة ولا حائل، المبعوثة إلى الناس كافة عبر القائد المصدوق المتبع الأمين، المحفوف بجند له من الصحابة والصديقين، لا يمكن أن تستمر وأتباعها يجهرون بها بالغدو والأصال، إلا أن تجد لها الأرض لتقوم وتديع، والشعب ليسمع ويطيع، والجيش ليدافع عنها بالنفس والأهل والمال. وبذلك استوعبت قريش، أن قائدا بأتباع وجيش، ورسالة صدق إلى كافة الأنام، إن تركوا له الأرض بالعشي سيصبحون فيها على دولة الإسلام.

ولما منعت قريش عن المسلمين ما ظهر لها أنه سيقيم بالعقيدة الجديدة دولة الإسلام وأركانها، فذاعوا بالمكر خلال الأرض وتقووا بالسلاح بالطول والعرض وأنفقوا المال والذخيرة إرساء لرئاستهم على رأس قريش وأوثانها، ما كان لهذه العقيدة الجديدة لتنبت كما يبغي لها النبات وترسي عباداتها بثبات، ثم تقيم عليها الشرائع والأحكام وتؤمن للمسلمين من غيرهم السلم والاحترام وتتم ذلك بالاستمرار والالتزام، إلا أن تنتقل من الأرض الجرز عقيمة التربة إلى الأرض الطرية الفتية الخصبة.

فهاجر المسلمون بعد أن جهروا بالدين الجديد وأذاعوا عقيدة التوحيد إلى المدينة ليقيموه في مجتمع قَبِل أن يحكمه الدين، مجتمع رضي الإسلام شرعا وحكما وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على السلطة والتمكين، معلنين بما لا يشك فيه عقل اللبيب ولا يخفى على الولدان والشيب أن الإسلام ليس دينا سرا بين العبد وربه، ولا إيمانا ينتهي عند المومن بيقين قلبه، ولا صلوات تستتر في المساجد، ولا عبادات لا ترى الشمس من المعابد، إنما هو الدين العلني الجهر الذي يوحد الله في واضحة النهار، ويعلو الأصل والوطن والعرق والقبيلة واللغة ويوحد الفرق ويحكم فوق كل اعتبار، هو الدستور الذي ينظم مجتمع المسلمين من أصغر تفاصيل الحياة نوما ولباسا وأكلا وشربا، إلى سياستهم مع غيرهم من الأقوام يشرع لهم معاملاتهم سلما وحربا. هو الدين الدولة التي قامت ووجب أن تقوم على كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يقينا وتقيم عليه الشرائع والحدود أينما حل وارتحل شرقا وغربا.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقام الإسلام بالمدينة حق الإقامة حتى سمع عنه الملوك والحكام من كل الأقطار، وأضاء بأنوار القرآن الليل وأخضع بإشعاع عظيم سنته ضوء النهار، وصقل خامات العوام بعظيم التقوى يميز عنهم الخبيث فيجعلهم من الأخيار، إنما قام عليهم كشريعة دين وحياة، يظهر الحلال بتحريم الحرام ويختبر الإيمان بالشبهات، ويحدد الفرائض ويزيد السنن ويبلي المقربين بالمستحبات، وخص لعمل الدنيا بحسب الإخلاص مثل العبادات في الحسنات، جاعلا بذلك الدنيا من الدين، والتعبد بكل عمل يبغي به العبد وجه رب العالمين، والقربات بالمال والنفس والأهل والبنين، والحياة بفرحها وقرحها ابتلاء لتمحيص قلوب الموقنين. ثم أقام الحدود قضاء، والشهود عدلا واتقاء، والتجارة بيعا وشراء، والحكامة عهدا ووفاء، والأسرة أدورا تبتغي لتربية الأجيال من المتقين رجالا ونساء.. وأقر الخلافة بيعة وولاء في نظام عدلي اقتصادي اجتماعي سياسي شامل كامل موزون مضمون محصن مؤمّن قائم بذاته لا يحتاج تبديلا ولا تعديلا، غير الفهم والتدقيق والإيمان والتطبيق.

وفتح الله بالمسلمين مكة وأتم على نبيه صلى الله عليه وسلم وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده؛ والفتح إنما دخول جيش على منطقة جغرافية لاستيعابها واستيطانها ولمها وضمها للموجود. ويعني قوة مؤمنة في انطلاقتها آمنة بولوجها إلى الهدف المقصود. ودخول جيش مسلح بقائد يعني وبالضرورة وجود سلطة وتنظيم، وقيادة ورعية وتسليم. كل هذا إن ضفناه إلى ما علمناه من تاريخ إقامة الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه بالمدينة، وكيف أن القرآن كان لهم دستور حياة حاربوا به وأمنوا به وعاشوا على هديه كل تفاصيل العيش وأقاموا به من الخلاف الهدنة ومن الفتنة السكينة، علمنا ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقام على أرض المدينة حكما وعدلا وأمنا بالنظام، وأرسى عليها قواعد دولة الإسلام. وظهر عندها حين الفتح أنه دين أقوم وأكمل من أن يتقلص إلى إيمان في الصدور، أو آيات تتلى على القبور، وأنه شريعة أوسع وأقوى من أن تطبق بين مجتمعات محكومة بشرائع أخرى، أو أن يتقطع بين الناس وتلغى حدود الله تحت قوانين وضعية كبرى، بل لا يمكن ولا يتوجب ولا ينبغي ولا يكون إلا أن يكون هو الشريعة الكبرى من دون تدافع، التي تظهر على الدين كله وعلى باقي الشرائع، لا فقط التي تقوم بها الدولة.. إنما التي تُقام على الدولة لتسير الدولة بأمر الله، ولينتظم الحال كله على طريقته وهداه.

أفإن مت أو قتلت انقلبوا على أعقابهم خسروا الدنيا والآخرة

وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ترك أمر الدولة من رسول أمين ظل طيلة تبليغة وإرسائه لقواعد الدولة مرتبطا بوحي من الله الحكيم المتعال، إلى يد بشر لا يوحى إليه ولا معجزة لديه بل عليه من الأمانة في الحفاظ على الرسالة والحكم ما يهد له الجبال. ولو غفلت هذه المرحلة في الذكر والوصف والتقدير عن كثيرين، واستهان بها عدد من المستشرقين، تظل أصعب وأخطر وأجل مرحلة مر منها الدين وهو في الانتشار على الطريق، فقد عرفت من الردة والتمرد والتمخض بين المسلمين ما منه الصدر يضيق، ورغم كل ذلك سلم الدين مما إن تعرض له غيره من الدساتير لن يطيق، وكيف لا يسلم ولا يغنم وقد مر من بين يدي خليفة رسول الله وصاحبه ثاني اثنين "أبو بكر الصديق".

يتبع..

زيارة موقع الكاتب: http://www.elmayssa.com

منبر

مايسة سلامة الناجي
كاتبة مغربية