من جانب آخر نحن نعلم أن هؤلاء لا يعبّرون في حقيقة الأمر عن أفكار شخصية، بل هناك من يدفع بهم إلى التعبير عنها بعدما لم تعد له الشجاعة لأن يقول للناس جهارا ما يعتقد، إما بحكم تواجده في تنظيم سياسي لا يريده أن يحترق أو يقع في حالة شرود بحكم الرهانات الانتخابية والحكومية، أو بسبب تواجده في المحيط الملكي، حيث تتعارض أفكاره مع السياسة الملكية في هذا المجال.
والمثير للانتباه أن الخصائص المشتركة بين هؤلاء هي التالية:
ـ أنهم لا يعرفون اللغة الأمازيغية، أو يعرفون بعض بقاياها في لهجة من اللهجات.
ـ أن أيا منهم لم يطلع على الإطلاق على الكتب المدرسية المقرّرة في تعليم اللغة الأمازيغية، ولا على كتب التوجيهات المدرسية التي وضعت للمدرسين، ولا على كتب النحو والصرف والتركيب المنشورة، ولا حضر دورة تكوينية واحدة ليتعرف على طريقة التدريس، ولا تابع أشغال الندوات الفكرية واللقاءات العلمية والندوات الصحفية التي ما فتئت تنظم على مدى العشر سنوات الأخيرة في قاعات عمومية مفتوحة للناس كافة، ولا تناول المعاجم المتوفرة، ولا كتب بحروف تيفيناغ ولا قرأ بها ليقارنها بغيرها، ولا دعا إلى اجتماع مع المختصين في اللسانيات والبيداغوجيا ليسائلهم في القضايا التي تشغله، ولا اطلع على تقارير وزارة التربية الوطنية المتعلقة بهذا الشأن، وهذا كله ما أدّى إلى الأخطاء المعرفية الفادحة التي يرتكبها أصحابنا ويكرّرونها حتى أصبحت بالنسبة لهم حقائق مؤكدة.
ـ أن ما يبدو في ما يحاول هؤلاء الترويج له هو أن المعرفة لا تهمّهم، وأن العلم آخر هواجسهم، وأنّ ما يشغلهم إلى حدّ هذياني هو هدْم ما تم بناؤه، والمشكل أنّ الهدم أيضا بحاجة إلى أدوات متينة، وهو ما لا يبدو أن هؤلاء يتوفرون عليه.
ـ أنهم عندما فشلوا في كلّ المعارك التي خاضوها ضدّ نهضة اللغة الأمازيغية وثقافتها، بقيت في جعبتهم رصاصة يتيمة لكنها صدئة، وهي محاولة بتّ التفرقة بين "أهل الريف" و"أهل سوس"، وهم من السذاجة بحيث يعتقدون أن هذا أمر ممكن، و ذلك بتأليب "أهل الريف" ضد "أهل سوس" و الحديث عن "الهيمنة السوسية"، لكن مشكلتهم أنهم على غير علم بتاريخ الحركة الأمازيغية بالمغرب، والتي اعتمدت دائما خطابا وحدويا وجعلت من توحيد ومعيرة الأمازيغية أحد مبادئها الراسخة، كما أنهم على غير إلمام باللهجات كلها التي يتحدثون عنها، ولهذا لا يقدمون أية أدلة عما يقولون، وعندما يبحثون عن الأدلة ـ وعليهم أن يفعلوا ـ فسيشعرون عندئذ بالخجل من أنفسهم، هذا إن كانت لديهم بقية مروءة.
ـ من الخصائص المشتركة أيضا بين هؤلاء المناوئين لوحدة اللغة الأمازيغية وحرفها العريق، أنهم يكتبون بأسلوب ملؤه النقمة والضغينة، رغم أننا جميعا إخوة ومغاربة نختلف في بعض الأفكار، وقد نكون خصوما سياسيين، ولكن ذلك ليس مبررا على الإطلاق لأن نتباغض. ومن واجبنا أن نقول بكل صدق للرأي العام الوطني بأن وراء هذا القدر من الاحتقان لدى هؤلاء الأفراد توجد فكرة خاطئة مفادها أن نهضة الأمازيغية ستشكل خطرا على اللغة العربية، وهي فكرة لسنا بحاجة إلى أن نقول إنها ليست فقط فكرة خاطئة، بل إنها فكرة لا وطنية.
ـ من الخصائص المشتركة أيضا أنهم كلهم اجتاحتهم موجة عشق عارمة لـ"اللهجات"، فأصبحوا أكبر المدافعين عنها ليس من أجل نهضتها وانتشارها بالطبع، بل لكي لا تكون ثمة لغة أمازيغية موحّدة، ولكي تظل اللغة العربية وحدها اللغة المعيار الموحّدة، والغريب أنهم قبل أن يعترف الدستور بالأمازيغية لغة رسمية للبلاد كانوا يقولون لنا كيف تطالبون بترسيم "لهجات سوقية متفرقة لا قيمة لها ولا مقومات" ؟ أي أن إخواننا هؤلاء استعملوا اللهجات من أجل تحقير الأمازيغية وإهانتها، وعندما تجاوزتهم اللغة ودخلت المدرسة وأصبحت لغة المؤسسات صارت اللهجات "السوقية" و"الوضيعة" موضوع تعظيم وتبجيل..
ـ ثمة نقطة أخرى مشتركة بين هؤلاء، وهي أنه ليس من بينهم من قدّم شيئا للأمازيغية في يوم من الأيام، فلا أبحاث في اللغة أو الثقافة أو التاريخ، ولا إبداعات في الأدب أو الفن، ولا مقالات لدعم مطالب الأمازيغية أيام كانت خارج الوثيقة الدستورية وبدون أية حماية قانونية، ومنهم من اشتغل بحكم تخصّصه في اللغة العربية وآدابها، ومنهم من عمل في مجال الفرنسية تدريسا وبحثا لعقود طويلة، ومنهم من عمل في الإسبانية أيضا، ولكن لا أحد منهم أنفق دقيقة واحدة من أجل خدمة اللغة الأمازيغية وثقافتها وآدابها، وعليهم أن يسألوا أنفسهم إن كانوا فعلا يستطيعون اليوم أن يهدموا ببعض الأقاويل الغارقة في العمومية والتلفيق وأحكام القيمة، ما شيّده مناضلون وباحثون وفنانون على مدى عقود من العمل.
يشترك إخواننا هؤلاء بجانب ما ذكرنا في أنهم يعانون من عقدة اسمها "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية"، التي يعتبرون العاملين فيها "شرذمة" من الناس المعزولين الذين ليس لهم أن يقرروا أي شيء في اللغة الأمازيغية، والحقيقة أن مشكلة هؤلاء مع "ليركام" هي أن ما حدث سنة 2001 جعلهم على هامش الأحداث بعد أن كانوا يحتكرون معنى "الوطنية" ويجعلون من إيديولوجياهم الاختزالية والإقصائية معيارا لكل القرارات التي ينبغي أن تتخذها الدولة، ولم يشعروا بأن أمورا كثيرة تغيرت من حولهم إلى أن فاتهم القطار.
إن الأمازيغية لا يمكن أن تُدبّر من منطلق إيديولوجيا عربية، إنها لغة وثقافة قائمة الذات، لها علاقات تفاعل وأخذ وعطاء مع غيرها من اللغات والثقافات بلا أدنى شك، لأنها ليست هوية انغلاق، ولكنها ليس مقدّرا عليها أن يتولىّ التخطيط لها بعد مأسستها، من كان بالأمس يحفر قبرها على شتى الأصعدة.
هل كل الذين يخوضون في موضوع توحيد اللغة الأمازيغية يفعلون عن سوء نية كما ذكرنا ؟ طبعا لا، هناك من يطرح أسئلة جوهرية من باب الرغبة في فهم ما يجري ، خاصة وأن التواصل حول القضايا المطروحة لا يتم إلا في اللقاءات الأكاديمية التي لا يتاح للجميع حضورها، لهؤلاء المواطنين نتناول في مقالات قادمة، ومن خلال مواقف المختصّين والعاملين في ورش توحيد اللغة الأمازيغية، الأسئلة التالية:
ما المقصود بتوحيد اللغة الأمازيغية ؟ وما هي المنهجية المتبناة في ذلك ؟ هل الأمازيغية المعيار "لغة مختبرية" ؟ هل تهدّد أمازيغية المدرسة اللهجات الشعبية اليومية ؟ لماذا لا يفهم الناس اللغة المعيار ؟ ولماذا يفهمون اللهجات ؟ هل صحيح ما يقال عن "الهيمنة السوسية" في بناء اللغة المعيار؟ كيف نتصور مستقبل اللغة الأمازيغية من خلال أوراش تهيئتها العلمية والتقنية؟