القائمة

الرأي

مسيرات تضامنية مغربية منافقة مع أهل غزة

في الأسبوع الأول الذي تلا عدوان الثمانية أيام الذي قامت به إسرائيل على قطاع غزة، خرجت للشارع بالمغرب، للتظاهر والاحتجاج، مسيرتان "كبيرتان" بمدينة الرباط والدار البيضاء، للتعبير عن التضامن مع غزة، ثم الاحتفال الضمني بالانتصار الرمزي الذي حققته صواريخ المقاومة على "جيش الدفاع" الإسرائيلي.

نشر
DR
مدة القراءة: 3'

أعترف أني علمت بالمظاهرتين، لكني لم أشارك فيهما أو في واحدة منهما على الأقل كما دأبت على ذلك من ذي قبل، حتى باعتقادي وإيماني القوي أن التضامن مع "شعب غزة"، والاحتفال بانتصار المقاومة يستاهل الخروج حقا للشارع، والهتاف بما تم إنجازه على الأرض ماديا وعلى المستوى الرمزي.

إن استنكافي عن الخروج مع التظاهرة التضامنية مع غزة بشارع محمد الخامس بالرباط، إنما مدعاته مجموعة تحفظات لطالما عبرت عنها كتابة، أو بالقول المباشر لأصحاب هذه المبادرات:

+ الأول لأن التظاهرة لم تكن عفوية بالمرة، بل خضعت لترتيبات رسمية دقيقة مع السلطات المحلية، والأمنية على وجه التحديد، حددت لها نقطة البدء والانتهاء، وتاريخ الانطلاق، وأزعم أنها، أي السلطة، رسمت لها طبيعة الشعارات التي تمت صياغتها على الورق أو باللافتات، أو ما يهتف به المواطنون وهم في جذبة التظاهر مندغمون.

هذا سلوك معيب، يشي بأن المغاربة قاصرون أو غير قادرين على تنظيم مظاهرة إذا لم يكن من حولهم مصالح في الأمن تنظمهم وتؤطرهم وتحول دون احتمال التجاوز من لدن بعضهم. كان المفروض أن تخرج التظاهرة دونما كل ذلك، ومن تجاوز أو خرج عن السياق، فثمة القانون الذي إليه يحتكم الجميع. أما وأنها سلكت الإجراء المعاكس، فهي كمن يمنع البكاء على الميت حتى يستصدر إذن من إمام المسجد بذلك.

+ التحفظ الثاني، أن التظاهرة تقدمتها وفود رسمية، وزراء وسياسيون ونقابيون وجمعوين وما سواهم، أعطوا الانطباع بأن التظاهرة هي تظاهرة نخبة، وليست تعبيرا عن إحساس جماهيري أو تضامن شعبي عفوي، أو سلوك ذاتي يعبر عنه المرء دون الحاجة إلى زعامات بالصف الأول، أو صفوف من الدرجة الثانية أو الثالثة، أو حراس أمن لهذا "الزعيم" أو ذاك، لهذه "الشخصية الاعتبارية" أو تلك.

إنه منظر مقزز حقا أن نرى هؤلاء بالصف الأول ملتصقين بعضم ببعض، والكاميرات مصوبة بجهتهم، كما لو أنهم حقا ضمير القضية بالمغرب، في حين أن الصحيح كان أن يكونوا ضمن الجماهير لا تمييز لهم عنها يذكر.

+ التحفظ الثالث، أن التظاهرة أقيمت ولكأنها شكل من أشكال التواصل الإشهاري، حيث العبرة فيه بمن يعطي العدد الأكثر من التصريحات، وبمن تتم استضافته بهذه المحطة الفضائية أو تلك.

وأستطيع أن أقول جازما إن من المنظمين من لم يكن يهمه من التظاهرة جملة وتفصيلا، إلا كاميرات الفضائيات، والاستضافة ببلاطوهات الأخبار والتمرير لصورته بالصفحة الأولى من جرائد المساء والصباح. وهذا أمر يثير الشفقة حقا، ولا يستطيع المرء إلا أن يحزن له ويتألم.

إن هذه التظاهرة لم تكن وسيلة للتعبير عن التضامن، ثم الاحتفال مع "شعب غزة"، بقدر ما كانت غاية في حد ذاتها، لسان حالها يقول: ها نحن معكم يا أهل غزة بشوارع الرباط والدار البيضاء، وبالفضائيات العابرة للجغرافيا، أما ما سوى ذلك، فلا تنتظروا منا شيئا إضافيا آخر...لقد قمنا بالواجب معكم وقضي الأمر.

إني أزعم بأن تظاهرة الرباط، والدار البيضاء دون شك، لم تكن بريئة بالمرة ولا صادقة مائة بالمائة، إذ كان لكل طرف في خضمها مصلحة محددة: هذا مكلوم على من استهدفه العدوان بغزة، وهذا فرح بصواريخها وصمودها الأسطوري، وذاك مفتخر ومراهن على قدرتها في رد العدوان، وذاك خرج لإعلان الحضور، حتى وهو يتمنى أن تذمر غزة والحكومة "الإسلامية" الثاوية خلفها، وهكذا.

الأغلبية من بين هؤلاء وهؤلاء إنما خرجوا وركبوا المناسبة للظهور بهذا المظهر أو ذاك، لا سيما الظهور بالفضائيات والتبجح بالخطابات.

شعب غزة يريد المال والسلاح، ولا يريد مديحا أو شعرا أو إنشاء، فما بالك بالمواقف المنافقة.

منبر

يحيى اليحياوي
أستاذ التعليم العالي
يحيى اليحياوي