يسمونها الحسابات الخصوصية حتى لا يطلقوا عليها لقب «الصناديق السوداء»، ويجعلون مداخيلها ومصاريفها خارج الميزانية حتى لا يراها البرلمان ولا الحكومة ولا الرأي العام. ثم إذا واجهتَهم بلاقانونية وجود مصاريف خارج الميزانية، عندها يشهرون في وجهك مراسيم غامضة تعود إلى الحقبة الاستعمارية. وعندما تنشر جريدة «أخبار اليوم» في هذه الحالة وثائق رسمية تظهر حجم البريمات الخيالية التي تخرج من هذه الحسابات إلى الوزراء والمدراء الكبار في الوزارة، لا يرد عليك أحد، بل تتحرك النيابة العامة والفرقة الوطنية، ويبدؤون في البحث عمن سرب هذه الوثائق (بريمات مزوار وبنسودة). ولأن لائحة أرقام هواتف الصحافيين دار بلا باب، والفصل 27 من الدستور، الذي يعطي للمواطن الحق في الوصول إلى المعلومات، نص لا أهمية له، يُفتح ملف متابعة لموظف وصديقه بدعوى تسريب وثائق سرية إلى الصحافة ويذهب الجميع إلى المحكمة ويذهب المال السايب إلى الجيوب العميقة.
أما السؤال عن شرعية هذه «البريمات»، وما إذا كانت قانونية أم لا، فهذا موضوع مذكرة «مجمدة» بعثها وزير العدل إلى النيابة العامة، يطالب فيها بالاستماع إلى وزير المالية السابق، صلاح الدين مزوار، والخازن العام نور الدين بنسودة، لكن النيابة العامة ومديرية الشؤون الجنائية نسيتها، ولم تتذكر سوى الموظف ألويز ومحمد رضا...
كله هذا يقع وسط حكومة جاءت على ظهر الربيع العربي، وبرنامجها، أو قل شرعيتها، كلها بنيت على أساس محاربة الفساد، واعتماد الشفافية وتطبيق القانون وعدم الإفلات من العقاب.
رئيس الحكومة ووزيراها في المالية لم يستطيعوا اتخاذ قرار بسيط للغاية، وهو إدخال الحسابات الخصوصية إلى ميزانية الدولة، وإغلاق الصناديق السوداء عن طريق تطبيق قواعد المحاسبة العمومية. فهل يعقل أن تعطى للمدراء الكبار في المالية والداخلية والخارجية صلاحية التوقيع على المليارات دون رقيب ولا حسيب، ودون علم ممثلي الأمة في البرلمان، ولا حتى الوزراء المعنيين في كثير من الأحيان؟
علاوات وزارة المالية لوحدها تتجاوز مليار درهم في السنة، دون الحديث عن عشرات الحسابات الخصوصية في وزارات ما كان يعرف بالسيادة.
علينا أن نختار بين دولة القانون وبين دولة الفوضى، بين مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وبين هدر دم المال العام، وجعل أرضه مستباحة بلا قانون ولا رقيب ولا حسيب، البرلمان يجب أن يدافع عن اختصاصه الأصلي، وهو مراقبة المالية العمومية، وإذا تحججت الحكومة بضرورة استعمال بعض الأموال في عمليات سرية ترتبط بالمصالح العليا للدولة، فعلى البرلمان أن يقول للحكومة افعلوا مثلما تفعل الدول الديمقراطية.. تصرف المال على العمليات الخاصة، لكن تأتي بها إلى لجنة خاصة في البرلمان تعقد جلساتها سريا وهكذا توفق بين منطق الدولة وضرورات الديمقراطية.
وزير المالية، نزار بركة، اليوم ضعيف لأنه معلق في الهواء. حزبه تحت قيادة شباط الذي يريد أن يتخلص منه في أول فرصة تتاح له، ولهذا فإنه يبحث عن قطعة خشب يمسك بها حتى لا يغرق، ولهذا فهو لن يقدر على مواجهة بعض المدراء الكبار في وزارة المالية، الذين يعتبرون أنفسهم فوق الحكومة والقانون والدستور. عبد الإله بنكيران مشغول في قضايا وملفات أقل أهمية من هذا الملف وغيره من الألغام المزروعة تحت قدميه، ويفضل خوض المعارك السياسية ضد أسماء مستعارة مثل العفاريت والتماسيح تحت قبة البرلمان التي لا تقدم ولا تؤخر...
اقتصاد الريع، الذي كُشف عن جزء من خارطته في وزارة التجهيز، لا يساوي شيئا أمام فضائح الصناديق السوداء التي تصرف المليارات بدون علم أحد، وإذا تجرأ أحد وقال «إن هذا منكر»، تفتح له ملفات المتابعة، والقضاء جاهز... ألا ترفع البلاد كلها شعار «القضاء مستقل». نعم إنه مستقل، لكنه مستقل عن العدالة.