لم يستطع دعاة استعمال الدين في الدولة أن يقدّموا حتى الآن نموذجا واحدا مستقرا ومقنعا يُقتدى به في إدارة شؤون الحكم، بينما تتعدّد النماذج الديمقراطية العلمانية في الغرب والشرق الأسيوي، وتقدم نماذج بالعشرات، وبهذا تظل فكرة الدولة الدينية الديمقراطية والعادلة مجرد فكرة نظرية أو حلم لا يلقى من المصداقية ما للنماذج العلمانية المجسّدة في الواقع الأرضي العيني والمشخص. يشفع لهذا الرأي ويعضده فرار مئات الدعاة الدينيين المتطرفين من بلاد المسلمين إلى بلاد الغرب العلماني لينعموا بحرياتهم كاملة وبحقوقهم الإجتماعية والاقتصادية كغيرهم من المواطنين تماما، وهي ظروف لا يحظون بها في بلدانهم التي يسود فيها رغم ذلك خطاب تحقيري عن الغرب "الكافر والمنحلّ". كما يوضح فكرتنا أكثر كون عودة هؤلاء السلفيين الهاربين من منافيهم إلى أوطانهم بعد الثورات، لم تجعلهم يقترحون ما يفيد استفادتهم من الديمقراطيات التي كانوا لاجئين لديها، بل على العكس من ذلك ظلوا يسعون إلى إقامة أنظمة استبدادية تتنافى كليا مع القيم التي نعموا بها في الغرب لعقود طويلة.
التجارب التي انطلقت بعد انتفاضات الشعوب خلال الربيع الديمقراطي، أفرزت صعود نجم الإسلاميين (الذين يُعتبرون "معتدلين") في عالم السياسة والحكم، لكن ذلك لم يأت حتى الآن بإشارات مطمئنة، تدلّ على أنّ ما يتمّ التأسيس له سيكون أفضل مما كان، خاصة وأن الإسلاميين الصاعدين في مصر وتونس والمغرب أظهروا بدرجات متفاوتة مقاومة ملموسة لآليات الديمقراطية التي اختزلوها من قبل في عملية التصويت، والتي ظهر لهم بعد ذلك بأنها قيم لا يمكن اختزالها في آلية الإقتراع دون توفير ضمانات المساواة والعدل والحرية لجميع المواطنين المختلفين، وهو ما يبدو أن الإسلاميين يقاومونه بشدّة في مرحلة وضع الدساتير في كل من مصر وتونس، كما رصدنا مقاومة حزب العدالة والتنمية لحرية المعتقد ـ أم الحريات في الدساتير الديمقراطية ـ في مشروع الدستور المغربي قبل الاستفتاء.
إن السعي الذي أظهره الإسلاميون إلى الاستيلاء على الدولة عوض المشاركة في تدبير شؤون الحكم، يعكس حرصهم على تمرير مشروع قد لا يكون مشتركا مع القوى الديمقراطية الأخرى.
نحن إذا أمام بداية تجارب ما بعد الثورات وقد تؤدي إلى بناء أولى النماذج الديمقراطية التي تقطع نهائيا مع الاستبداد، وقد تنحرف بسبب غلواء الفاعلين الإسلاميين لتسقط في إعادة إنتاج التجارب السابقة التي أدّت إلى الثورات، وهو ما يعني أن الطرف الإسلامي في وضعية صعبة، فمن جهة سيكون ملزما بإثبات تمسكه بقيم الديمقراطية التي طالب بها الشارع خلال الانتفاضات، والمتمثلة أساسا في رعاية الإختلاف و احترام الحريات والمساواة التامة بين المواطنين، والابتعاد عن توظيف الدين في التمكين لسلطات الاستبداد، ومحاربة الفساد في الدولة، ومن جهة ثانية سيكون عليهم أن يعملوا على تحقيق مشروعهم الذي يميزهم عن غيرهم، والمتمثل في تسريع مسلسل الأسلمة القسرية التي تتعارض مع القيم الديمقراطية.
قد لا تكون الديمقراطية نموذجا نمطيا واحدا لا في الغرب ولا في الشرق، وقد تتعدّد النماذج بتعدّد البلدان والتجارب المختلفة، لكنها ملزمة لكي تحسب على الديمقراطية أن تحتفظ بثوابت النظام الديمقراطي التي هي مشتركة بين كل النماذج بدون استثناء.