القائمة

الرأي

تجمع "ايكس ليبان" والخوف من انطلاق جيش التحرير - الجزء الثالث-

سنتطرق في هذا المقال لعدد من الحيثيات والمعطيات التي أحاطت بما يعرف بمحادثات إيكس ليبان والتي انعقدت بين 22 و28 غشت سنة 1955 قبيل انطلاق عمليات جيش التحرير المغربي في 02 أكتوبر 1955.

نشر
DR
مدة القراءة: 8'

بوعبيد وايكس ليبان 

كما لا ننسى في هذا الخضم كذلك تحركات عبد الرحيم بوعبيد وهو في باريس ومواقفه، وهو أحد أهم أعضاء حزب الاستقلال. فحين قرر الدخول الى المغرب حوالي نهاية غشت وبداية شتنبر 1955، فكر في لقاء مكونات " جيش التحرير " بمدريد، وكذا لقاء بلافريج، الذي لم يحرك ساكنا في اتجاه ممثلي المقاومة وجيش التحرير.

وفي هذا المشهد كانت منظمة " الوجود الفرنسي " تعمل من أجل استتباب دولة فرنسية مغربية، بمعنى تكوين حكومة فرنسيين ومغاربة.

بإيجاز، كان الشارع في المغرب يسير على صفيح ساخن بجميع المكونات الحاضرة. مما حمل لوبي المتشددين في باريس على إشاعة أن: " معاهدة فاس لا يمكنها أن تحتفظ بمناعتها إلا بالحفاظ على ابن عرفة في منصبه " (عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات صفحة 88). أي أنه قبل أيام قليلة من موعد لقاء "ايكس ليبان" أعلن   "ان مؤتمرا فرنسيا مغربيا سينعقد في مكان ما من فرنسا مع نهاية أغسطس من أجل النقاش حول الإصلاحات الواجب اتخاذها " (عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات صفحة 88).

اذن، جاءت محادثات ايكس ليبان ردا فوريا، الى حد ما، على مسعى جهات فرنسية متشبثة بوجودها في المغرب لدفع ابن عرفة لتكوين حكومة على مقاسها (تقليدية) بمعنى تمديد وجود بنعرفة كملك للمغرب لقطع الطريق على من يسعى لغير ذلك. وهذا يؤكد أن الذين ذهبوا اليها من المغاربة، على اختلاف توجهاتهم انما جروا جرا دون أي استعداد. وكان المبرر الوحيد والغامض، لمالا "المتهافت" الذي قدمه بوعبيد كمبرر لمشاركة حزبه أو لنقل أعضائه هو: "ستتيح المشاركة لحزب الاستقلال إمكانية أن يستقبل، لأول مرة، رسميا، من قبل الحكومة الفرنسية، لا سيما وأن الحزب حينها كان يعتبر متطرفا " (عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات صفحة 101).

هذا التفسير الذي قدمه بوعبيد، أصبح يغطي على جميع الأعذار الأخرى أو الحجج المقدمة، لأن الكلمة التي سيقدمها في لحظات الاستماع إلى الفرقاء، وما نالته من استحسان، تجعلنا نشكك في كل ما أحيط به الأمر من استعجال. الكلمة التي نالت الإعجاب تدفعنا إلى أن نفهم أن إعدادها تطلب وقتا كافيا لرصها، وتصفيف أفكارها، وجملها، وكلماتها... أما الحديث عن تأففهم من الجلوس إلى جانب "شخصيات لا تمثيلية لها" فموقف لا يتجاوز ما نعبر عنه ب "خضرة فوق طعام".

هل الجلوس إلى جانب المستعمر له مبرر؟

لكن المثير في هذه ال "ايكس ليبان"، كون الحديث عنها:

  • يقتصر على الجانب المغربي، وهذا الجانب كانت مكوناته كثيرة، لكن اللوم ننزله على الحزبيين المعروفين وبدرجة أقسى على حزب الاستقلال. وهنا مكمن الغموض.
  • تصريح رئيس الحكومة ادكارفور في آخر المحادثات، أعلن فيه أن الترتيبات التي لم يتم الخوض فيها ستبث فيها لجن وزارية. وعلى ما يبدو، فالأطراف المغربية توقف دورها عند التصريحات التي تقدمت بها أثناء جلسات الاستماع، بمعنى أن أداور هذه الجهات تم الاقتصار على إدلائها بما تراه. أما القرارات المتخذة فستبقى لهذه اللجن الوزارية. إذن الأطراف المغربية استدعيت لملء بعض فراغات الخشبة!
  • لم نسمع ولم نقرأ في كل هذا، حسب علمي، أي شيء عن وقائع ما بعد تصريح ادكارفور، فهل الأمر لم يكن إلا إلهاء أو تمويها، أم ترك لهذه اللجن صلاحية ما شاءت؟
  • الأهم في كل هذا أن ادكارفور أعلن ما يلي: "أجري مع جميع الأطراف محادثات عادلة ومنفتحة وجادة، دون أن تدون في محاضر، وحاولنا أن نفهم بعضنا البعض". إذن الخلاصة تتجلى في أن المحادثات "لم تدون في محاضر"! و"حاولنا أن نفهم بعضنا البعض". هاتان العبارتان تؤكدان الغموض الكبير الذي لف المحادثات المزعومة...

زعامات حزب الاستقلال تستحضر خلافاتها في أجواء ايكس ليبان

يجب أن نستحضر شيئا هاما في تاريخ التجاذبات وسط الحركة الوطنية، والتفاوض مع فرنسا، منذ خروج العناصر الحزبية من السجن، وكيف أن الخلافات ضغطت جيدا على مواقفهم، وآخرها ما تعلق بايكس ليبان، حينما تم الاتفاق على استئناف الاتصالات بعد 28 غشت 1955. كان "المفاوضون" من الحزب يقومون بالسفر ذهابا وإيابا بين باريس وجنيف حيث يقيم بلافريج. وفي نفس الوقت، كان علال الفاسي يعلن رفضه لما أقبل عليه الحزب حين قبل بلعبة "ايكس ليبان". ولما تقرر وسط القيادة الحزبية الاتجاه إلى تقريب وجهتي نظر علال الفاسي وأحمد بلافريج خلال الاجتماع المزمع عقده بروما، توصلت ببرقية من علال، يعلن فيها رفضه الحضور بادعاء أن القيادة بصدد الانخراط في مباركة اتفاقيات ايكس ليبان (عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات صفحة 118). لكن تعليق بوعبيد المقتضب على البرقية يشي بأن الأمر لا يعدو أن يكون تصريفا للأحقاد (علال/بلافريج). يقول بوعبيد: "فقد بعث إلينا ببرقية بحمولة لغوية تشي بنوع من الضغينة" (عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات صفحة118).

ثم يضيف إن مواقف علال الفاسي اتخذت لأحد الأمرين التاليين:

  • الإعلان عن القطيعة بين زعيم الحزب والإدارة التنفيذية في الداخل.
  • علال الفاسي اتخذ الموقف تحت تأثير الجزائريين أعضاء لجنة التحرير المغاربية بالقاهرة.

ايكس ليبان مسرح المتناقضات ولعبة ساحر

عند استعراض الخلافات التي كانت تنخر الجهات الفرنسية، حكومة وعسكرا يزداد الغموض حول مصير المحادثات، والدواعي إليها، مع العلم أن ما كان يدور في كواليسها هو الموقف من تكوين مجلس العرش بين معارض وموافق.

وخلاصة ما يمكن أن يصل إليه كل متتبع، كون الأطراف وجدت أن الطريق السالكة هي انتسيرابي. أي أن مفاتيح الأبواب المغلقة أمام الجميع يجب البحث عنها لدى محمد الخامس. وكل جهة ذهبت للقائه كانت تقدم له تصوراتها وآفاقها.

فهل معنى هذا أن ايكس ليبان لم تكن إلا وعاء لنقل المواد؟ أو ظرفا لنقل الرسائل؟ ويتجلى الغموض فيما سيأتي من السنوات ومعها بعض المواقف التي يمكن تلخيصها فيما يلي:

  • الأطراف المختلفة التي حضرت، لم نسمع لها تعليقا ولا رواية، باستثناء عبد الهادي بوطالب وغيره من السياسيين، من الحزبيين، وهم على رؤوس الأصابع.
  • بنبركة سيصرح في "الاختيار الثوري" أن حضور هذه المحادثات كان خطأ قاتلا ولم يقدم تفسيرا ما لهذا الموقف الذي كان يحتاج إلى كل التوضيح منه...
  • علال الفاسي رفض حضور اجتماع لقادة الحزب بروما لتوضيح أو تقييم ملابسات هذه المحادثات. ونجد بوعبيد يوضح الأمر بقوله: أن عدم حضوره إلى جانب قادة الحزب، وعلى رأسهم بلافريج كان يرجع إلى الخلاف بين الرجلين، وشعور علال أنه مقصي إلى حد ما، أو كان تحت تأثير دعاية القادة الجزائريين بالقاهرة...
  • يمكن أن نستحضر بقوة ظلال الصيف المحموم وأثرها على الإسراع بعقد هذه المحادثات، وما يعطي الانطباع على صحة هذا الطرح كون بعض الوطنيين أوضحوا أنهم لم يعلموا بأمرها إلا في آخر لحظة. كما يمكن أن نستحضر خلافات الحكومة الفرنسية، وكبار عساكرها، المزمنة.
  • والملاحظة العميقة تتجلى في انعدام أية إشارة إلى وجود استعدادات لقيام جيش التحرير، وذاك ما سيستدركه ادكارفور حين كتابة مذكراته. وسنفهم جيدا أن التداول في شأن هذا التنظيم بقي سرا من الأسرار حتى لا تؤثر على سير اللقاءات والقرارات المختلفة علما أن الانزعاج كان باديا على أجواء تلك الفترة إذا لم نقل كان هناك تسابق، ولا يعلم المرء سبب هذا الالتفاف، لا من لدن رجالات الحركة الوطنية ولا من لدن الجهة الفرنسية، علما أن بوعبيد سيقرر، مباشرة بعد انتهاء المحادثات، الانتقال إلى المغرب، مع المرور بإسبانيا، للقاء أعضاء من "قيادة" المقاومة وجيش التحرير في مدريد. وهنا نسجل اعترافه بوجود جيش التحرير والمقاومة دون الالتفات إليهما.

ومن الضروري أن نشير إلى إمكانية ربط ندم بنبركة على حضور هذه المحادثات، مع اعتبارها خطأ قاتلا بعدم حضور القوة الضاغطة التي ستظهر بعد شهر على مسرح الأحداث. أي أنه (هم) أخطأوا التقدير أو التخطيط في الأغلب الأمر. وفي هذه الحالة يمكن أن نقول ان المحادثات لم تكن ذات مفعول، بل فتحت الآفاق للجهات المعنية لاتخاذ القرارات ما ظهر منها وما بطن، باستغلال هذا التجمع في جميع الأحوال والاتجاهات.

يبدو أن أمر "ايكس ليبان"، لا يقدم إلا ما يتعلق بوضعية ابن عرفة، ومجلس العرش، ووفود ترسل إلى انتسيرابي، في جو من البهرجة، لاستطلاع رأي محمد الخامس، مع عرض آراء مختلفة عليه انطلاقا من تعدد الوفود التي زارته.

وحتى تسمية ما يتعلق بموضوع ايكس ليبان، بتعددها، توحي بالتخبط والغموض لدى الفرقاء:

  • عبد الرحيم بوعبيد: "خلال مقامنا في ايكس ليبان، كنا نتنقل ذهابا وجيئة بين المدينتين لاطلاعه (بلافريج) على تطور المفاوضات والتشاورات حول القرارات الواجب اتخاذها". (حتى هذه الجهة الأخيرة تزيد الأمر غموضا. فهل كانت هناك قرارات يجب اتخاذها؟).
  • ادكارفور: "لقد انتهت المشاورات عمليا..." (صفحة 278- عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات).
  • نعتها تارة ب "لقاءات ايكس ليبان".
  • وأخرى بالمحادثات: "أجري مع جميع الأطراف محادثات عادلة ومنفتحة وجادة ودون أن تدون في محاضر". (عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات الصفحتين 278-279).
  • علال الفاسي، في برقية إلى قيادة الحزب: "يرفض الانضمام إلى عمل يهدف إلى مباركة اتفاقيات ايكس ليبان." (عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات صفحة 118).
  • عبد الهادي بوطالب: طبع النقاش الجاري جو من الانفراج (ذكريات... شهادات... صفحة 278)

ويعود ادكارفور إلى التذكير بأن الأمر استدعى لم شمل مواقف المغاربة: "يجب مهما اقتضى الأمر التوفيق بين هذه التيارات في الرأي العام المغربي. (عبد الرحيم بوعبيد: شهادات وتأملات صفحة 279).

ونلخص كل ما مر بنا فيما أورده المساري في كتابة حول علال الفاسي (صفحة 63):

"يجب أن نفهم (من ذلك) أن الخواطر كانت مشغولة بمصير التسوية ذاتها وبترجيح المسار الذي قاده محمد الخامس منذ اتفاق انتسيرابي في شتنبر 1955 (أي مباشرة بعد ايكس ليبان)، وهو أساس التسوية وليس كما يتردد خطأ مشاورات "ايكس ليبان". ولم يشر المساري، رغم هذا، إلى أن التسوية المطلوبة كانت تتطلب محاولة القفز على استعدادات جيش التحرير في الجبال الأطلسية والريفية، ذلك المولود الجديد الذي بات الحديث عنه مثار إزعاج. وحتى علال الفاسي وهو في المشرق كان يهش بهذه العصا على مختلف الفرقاء، لكن الأحداث تجاوزته ليجد نفسه لمدة غير يسيرة في حيص بيص.

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال