وتشير الكتابات الخاصة بتاريخ شمال إفريقيا القديم، إلى استقرار عدد من المجموعات البشرية الوافدة على المنطقة في فترات معينة، ومنها التي يطلق عليها اسم الأمازيغ أو البربر ولها أصول مختلفة وانفتحت على روافد متعددة، وأنشأت هذه المجموعات أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وهي الأنظمة التي لا زالت محط تنقيب ودراسة الباحثين المختصين.
ومن أهم الكيانات التي تعاقبت على المنطقة خلال تاريخ الشمال الأفريقي أو تأثرت به، المملكة الليبية النوميدية والامبراطورية القرطاجية وعصر المماليك البربرية، كما أن هذه المنطقة شهدت سيطرة الامبراطوريات الكبيرة الإغريقية والرومانية وغيرها، وهذا قبل قدوم العرب.
ولهذا نجد بالمغرب عددا من المناطق والمدن التي لها تسميات مأخوذة من تاريخ سيطرة شعوب مستعمرة للمنطقة، ويقول الباحث الجزائري عقون محمد العربي في كتابه "الاقتصاد والمجتمع في الشمال الأفريقي القديم: " كانت مدن شمال إفريقيا عبر التاريخ مراكز حضارة الغالب، وهو الاستعمار في أغلب المراحل مما جعل العنصر الأهلي في هذه المدن ينصهر في حضارة الغالب" أو كما وصفها ابن خلدون "المغلوب ولو بتقليد الغالب".
ويقدم اصطفان اكصيل Stéphane GSELL، في كتابه "تاريخ شمال إفريقيا القديم" العديد من الأمثلة من أسماء أماكن ومدن بالمغرب لها أصول مختلفة.
ويقول في الجزء الثاني من الكتاب: "نلاحظ أن الأسماء التي من أصل فينيقي يكثر وجودها على سواحل شمال أفريقيا في القرون الميلادية الأولى. والمعتقد أن هذه الأسماء أطلقت على مدن ومتاجر أسسها فينيقيو المشرق أو القرطاجيون. على أن هؤلاء أمكنهم أن يطلقوا أسماء من لغتهم على بعض المراكز الأهلية التي كانوا يترددون عليها، كما أمكنهم الاحتفاظ بالأسماء الليبية لأماكن أخرى استولوا عليها. والأفارقة أنفسهم أمكنهم استخدام أسماء أجنبية عن لغة آبائهم، والكثير منهم خضعوا لتأثير الحضارة البونيقية. ومع ذلك فإن الاستعمال الرسمي للغة الفينيقية في بعض المدن تم بعد سقوط قرطاجة، كما تشهد بذلك بعض النقود البلدية، ليست برهانا حاسما على الماضي الفينيقي لهذه المدن..."
وبحسب اكصيل، فقد كانت مليليّة الحالية تسمى روسَّدير Rusaddir، واسم روسَّدير فينيقي معناه (الرأس الشديد) أي الرأس العظيم، وأطلق الاسم أول الأمر على الشكل التي تأخذه شبه الجزيرة المجاورة للناظور حاليا، ونجد الاسم مكتوب بالحروف البونيقية على قطع نقدية ضربت بالمدينة بعد سقوط قرطاجة.
وسمي نهر تَمودا وهو وادي مَرْتيل، نهر تِطْوان، استنادا على الأرجح للنقود التي ضربت عليها تَمْدات Tamdat أو تَمْدَعْت بالحروف البونيقية، ولفظ تَمودا له نبرة أهلية.
وعلى ساحل المضيق من هضبة سَبْتَة إلى رأس شْبَرْتل، هناك عمود هو جبل أشو Mont Acho في شبه جزيرة سبتة. وأبيلوكس فيحتمل أنه جبل القرود. وعند المدخل الغربي للمضيق شرقي رأس شْبَرْتل، يظهر تقوس طَنْجة الذي له شكل نصف مستدير. وكانت تِنْجي Tingi مدينة قديمة، وهناك نقود بكتابة بونيقية جديدة، تطلق عليها تيتْكَا Titga وتينكَا Tinga، وليس هناك ما يبرهن على أن مستعمرة فينيقية حقيقية قد وجدت في تِنْجي، أما الاسم فلا شك أنه غير فينيقي، وتعزو إحدى الأساطير تأسيس المدينة إلى أنطي Antée الملك الأهلي.
أما رأس شْبَرْتل فكان يدعى في العهود القديمة رأس الدوالي، أي أمْبلوسْيا Ampeloussia عند الإغريق، وكوتس Cotès عند الأفارقة وكانت به مغارة هرقل. وأما زيلي Zili وهي اليوم "أَصِيلة" فقد ضربت نقودا كتبت عليها اسمها بالحروف البونيقية.
ووادي لكّوس كان يسمى لكسوس والتي يعتقد حسب بعض المصادر التاريخية القديمة بأنها مدينة العرائش الحالية، وضربت نقودا في العهد الميلادي بهذه الجهة تعرض كتابات بالبونيقية الجديدة وتقرأ شِمّشْ Shemesh أو مَقومْ شِمِّشْ Maqom Shemesh ويسوغ الاعتقاد بأنها صنعت في لكْسوس. ولفظ مَقومْ Maqom كان معناه مدينة في فينيقيا، كما أن شِمِّشْ Shemesh هي الشمس. فتكون لكْسوس قد وصفت بأنها "مدينة الشمس"، الأمر الذي لابد أن يفسر بأهمية العبادة التي كانت تؤدى لمعبود شمسي وهو مَلْقارْت على ما يحتمل.
وذكر عدد من الكتاب القدامى وجود خليج يقع على الساحل المحيطي ويطلق عليه سيلَكْس المشْبوه Pseudo-Slyax اسم كوتِس Cotès، ويجعله يبتدئ مما وراء الاعمدة، كما يجعل نهايته عند مرتفع هِرْميس Hermès إلى الجنوب الغربي لمصب وادي أبي رقراق، ويذكر كتاب من العهد الروماني سَلا Sala التي لاسمها رَنّة فينيقية، والتي ضربت عند نهاية القرن الأول قبل الميلاد نقودا بكتابة بونيقية جديدة، فيحتمل أنها كانت ذات أصل فينيقي. وكانت تقوم بشالة Chella، على مرتفعات الضفة الغربية وراء الرباط، حيث كانت السفن تأوي للنهر الذي يحمل نفس اسم المدينة: سلا Sala أو سَلَتْ Salat.
وعلى بعد 331 كيلوكتر من لكْسوس، بين نهر سَلَتْ Salat ومرتفع سوليسْ Promunturium Solis أي رأس كَنْتان Cap Cantin، وتقودنا هذه المسافة إلى مدينة مازيغَنْ (الجديدة) أو روسبسيس. أما رأس كَنْتان فكان يحمل عند الفنيقيين اسما كتبه الإغريق بصيغة سولُويْس Soloeis وقد أقيم به معبدا كرّس لأحد آلهة البحر.
وفي "الصويرة" كانت جزيرتها الكبيرة تدعى يونون Junon، أي أَسْتَرْتي على ما يحتمل، وأكادير احتفظت حتى اليوم باسم بونيقي. وبين نهر فوث Phuth (وادي تَنْسفْت) والأطلس الكبير (رأس غِير) هناك موقع باسم أوسّادْيون أكْرون Oussadion Acron الذي يتناسب مع رأس سيم Cap Sim.
هذه أمثلة لبعض المواقع التي ذكرت في مؤلف اصطفان اكصيل استنادا لبعض المصادر من التاريخ القديم، ويتبين من خلالها التأثيرات الحضارية المختلفة التي شهدها المغرب قديما، وهو التأثير الذي يتعدى نطاق تسمية المواقع والمدن. كما أن تأثير الفنيقين لم يقتصر فقط على المغرب قديما وعلى الضفة الجنوبية والغربية لحوض البحر الأبيض المتوسط، وإنما كذلك في إسبانيا، وهذا التأثير لا زال قائما لحدود اليوم.