تظل قضية العادات والتقاليد جزءا حيويا مكوِّنا للوجدان عند تلك الجماعات أو الجاليات التي تعيش في كنف مجتمعات أخرى تستضيفها لمدد مؤقتة أو دائمة. ومن الضروري في معالجة قضية كهذه تذكّر حقيقة التفاعل بين المجموعات البشرية التي تحيا في كنف بعضها بعضا.. وسيكون من الضروري دوما التأكيد على أهمية التفاعل الإيجابي بينها ودفع ما يمكن أنْ يثير الحساسيات بين الأطراف المكوِّنة للمجتمعات الجديدة المتولّدة عن حالات الاندماج بين السكان الأصليين من الأغلبية والسكان الجدد من الأقلية أي من الجاليات المتكونة من القادمين الجدد إلى البلاد...
ولعله من الطبيعي أن توجد فروق عديدة تتبع حالات التعددية في المنشأ الحضاري وتلك التعددية في الثقافات المتنوعة التي تنحدر منها الجاليات الجديدة المتشكّلة... ومن العادي أو المتوقع أنْ توجِد تلك الاختلافات بعض الإشكالات بين طرفي المعادلة. ولكنَّ محاولات المجتمعات الإنسانية في دول المؤسسات الديموقراطية تتجه باستمرار باتجاه حل المشكلات المفترضة ووضع المعالجات الناجعة لها.. ولكنَّها في الوقت ذاته تجابه عراقيل معوِّقة لمثل تلك التوجهات الإيجابية عند عناصر محدودة من الطرفين..
وليست تلك العناصر أو المفردات المعوِّقة إلا [أفرادا] يحملون في أذهانهم تصورات سلبية تقوم على العنصرية أو محاولات تفرض العزلة والانقسام وتتعارض مع أجواء الديموقراطية والروح المسؤول تجاه الجو العام للمجتمع.. ومثل هؤلاء عادة ما يكونوا من حالات التطرف والتشدد الفكري والسياسي المستند في الغالب لفروض دينية مفتعلة مزيفة لا تمت إلى حقيقة الديانات من توجه سلمي وانفتاح فكري وتسامح وتفاعل إيجابي وجدل بين البشر لما هو أقوم وأفضل..
ومثالنا هنا في المجتمع الهولندي ما حصل في الآونة الأخيرة من جريمة نكراء بحق أحد المخرجين السينمائيين على يد أحد أبناء جالية مقيمة في بلاد الخضرة والزهور والهدوء.. وإذا كان من الضروري قول شيئ فينبغي القول: إنَّ قتل شرير مستفـِـز يظل جريمة ولا يقلل من شناعة الجرم كون الضحية شريرا أو عدائي التوجه والفلسفة والسلوك. ففي أي نظام وفي ظل أي قانون [ديني] أو وضعي دنيوي تبقى مسألة الحساب والمعالجة في إطار الفعل المؤسساتي الجمعي هذا فيما إذا كان هناك من استفزاز أو حتى ارتكاب لجرم وليس من حق الأفراد أو الجماعات والفئات الصغيرة أو الكبيرة الانفراد بتنفيذ العقوبات كما يجري من انفلات بعض المتطرفين عندما ينصِّبون أنفسهم قضاة وهيئات تنفيذ وليس في قوانينهم أقل من أحكام الموت بناء على ضلال فكرهم التكفيري المتشدد...
وعلينا هنا بصدد الديانات والجماعات الدينية والجاليات وما لديها من صحة الرأي والسلوك والتزام بالقانون وباحترام التعددية ومفهوم الجدل السلمي والتفاعل الإيجابي بينها وبين المجتمع الذي تقيم في كنفه؛ علينا أن نعزل بين هؤلاء وبين أولئك الأفراد المعزولين أصلا عن مجتمعاتهم الأصلية كونهم من القوى المعادية لأي نمط من أنماط الاستقرار والسلم والسلوك الإنساني الطبيعي..
وهذا الموقف يهيِّئ للأخذ بيد أفضل معالجة إيجابية للعلاقة بين أبناء الجاليات وبين الأغلبية من أبناء المجتمع الأصل.. كما يأخذ بإيجابية التفاعل على أساس من الاندماج البنَّاء الذي يعزز من جهة تبني الخطوط العامة والمحاور العريضة المشتركة بين الأطراف كافة ومن جهة أخرى يوحِّد بين تلك الأطراف بالضد من الذين يستهدفون وحدة الوجود الإنساني وقيمه الرائعة التي تساوي بين البشر وتكفل العدالة واحترام طقوس الأطراف كافة في الاعتقاد والتفكير واتخاذ وسائل عيش بعينها إيمانا وترك أخرى...
إنَّ عمليات الاغتيال والتقتيل وأعمال التهديد بالعنف وولوج طريق الحرب الدموية ومثل ذلك استغلال كل أعمال الإرهاب الأخرى من إرهاب فكري وسياسي ومحاولات مصادرة الحريات العامة والخاصة على أرضية من الادعاءات الزاعمة بالخلفية الدينية لتصرفاتها الهمجية المعادية للإنسان وحقوقه، إنَّ كل ذلك لا يمكن تمريره من دون وجوب استنكاره وإدانته من مجموع الرأي العام ومن ممثلي الجماعات والجاليات المتعددة المختلفة من أجل كبح جماح جماعات التطرف وأولئك الأفراد الانعزاليين المعادين للسلم الاجتماعي ولاستقرار المجتمع...
الضروري هنا توظيف الميديا المحلية وكذلك أجهزة إعلام الدول التي تنتمي إليها الجاليات المعنية من أجل تشديد الخناق على قوى التطرف ومن أجل تعزيز العلاقات الطبيعية بين الأطراف كافة.. ولأنَّ قضايا مثل مسألة تهديد الأمن الوطني وتهديد الاستقرار في مجتمع مؤسساتي ديموقراطي هي قضايا بالغة الحساسية والخطورة ينبغي ألا تمرّ جرائم من نمط ما جرى بحق المخرج السينمائي الهولندي من دون معالجة واضحة صريحة تمتلك كامل الشجاعة لإدانتها وفضح أهدافها المرضية ومخاطرها على مجموع المجتمع ومن ضمنه الجاليات التي وجدت في موطنها الجديد الأمن والأمان..
أما أولئك المرضى من الموتورين من أفراد يتوهمون ويتخيلون مرضيا كونهم قضاة ويصدرون الأحكام بحق المجتمع من تكفير مصادرين بذلك الحقوق والحريات بحجج تمثيلهم الدين أو الله على الأرض, أما أولئك الهمج الخراب فلا بد من تطبيق أبعد ما يمكنه تأمين حق الإنسان من شرورهم التخريبية... ومن الطبيعي الحذر هنا من مطبات الوقوع في استفزازات التطرف وجرائمه.
كما إنَّ مسألة الدفاع عن حقوق الجاليات من الاعتداء عليها أو الانتقاص منها أمر لا يسوِّغ اتخاذ سبل عنفية أو عنيفة متشددة في المعالجة والتناول وهي ليست مسوغا بالمرة للدخول في مشاحنات مع الآخر وفي مهاجمته ما يخلق أرضية محتملة للمتطرفين للادعاء بحق مهاجمة مجتمع بعينه كما حصل هنا من تبادل الاعتداءات بين أفراد متطرفين من الطرفين على الكنائس والجوامع والحال هو التقاء المتشددين من الطرفين في موقع واحد بالضد من كل مكونات المجتمع من الأغلبية من السكان الأصليين ومن الأقليات من الجالية..
إذن لا يمكننا الخلط بين الدفاع عن الجالية وتقاليدها وأصولها وعن حقها في الاعتقاد وكونها مجموعة إنسانية مسالمة ومتفاعلة وبين مسألة تعرضها للاستفزاز من قبل أفراد بعينهم ما قد يُفسَّر تفسيرا خاطئا سلبيا يخدم سياسات التطرف ويدخل مكوِّنات المجتمع في دوامة غير صحيحة.. من هنا كان لابد من وقف حالات الخلط التي تحصل نتيجة الحماسة ونتيجة المعالجات الساذجة التي لا تدرك أبعد من الموضوع الذي تتناوله ما يقتضي الرد على تلك التصورات ومعالجة الأخطاء التي تقع فيها والعمل على الخروج من عنق محدودية المعالجات وقصورها باتجاه الدراسات الإيجابية الشاملة أو التي تمتلك النظرات الستراتيجية عميقة التحليل راسخة الأرضية متينتها...
إنَّ وضع الإرهاب في مقدمة مستهدفاتنا لمكافحته ووقف أفعاله العدوانية أمر سياسعدنا على التفاعل الإيجابي مع محيطنا الذي نحيا في كنفه باختيارنا وبقبول إنساني موضوعي من المجتمع الجديد ما ينبغي احترام تفاصيل ضوابطه وقوانينه.. كما سيعني حل كثير من المشكلات المحتملة في عملية التفاهم بين الطرفين ويضمن أفضليات علاقات صحية صحيحة.. بينما التغافل عن أفعال المجرمين بخاصة عندما يكونوا ممن ينتمي إلى أصول من الجالية المعنية أمر ليس موضوعيا إذ لماذا الصمت على مثل تلك الجرائم والصراخ والانفعال عندما يتعلق الأمر بأمور هامشية تخص أفراد من الجالية؟ ويبقى هذا التساؤل مشروعا ويثير حفيظة المجتمع الأصل تجاه العلاقة مع أبناء الجالية..
وهكذا ستكون عمليات الإدانة المشتركة للتطرف وسيلة موضوعية إيجابية لدرء توسيع الاختلاف والشقاق بين مكونات المجتمع الإنساني.. ويمنح الفرص واسعة للتفاهم والتفاعل بدلا من الاحتكاك السلبي.. كما سيكون من المفيد تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني لكلا الطرفين من منظمات وجمعيات ومرجعيات للغاية ذاتها .. وعلى صعيد الجاليات العربية والمسلمة في النموذج الذي أشرنا إليه ـ هولندا ـ يمكن التقدم بمعالجات جدية صائبة تلتزم تجنب الانجرار وراء الاستفزازات أو إبراز ما يقع في إطار ذلك كما يحصل من بعض الكتاب والجهات..
وهنا توجد عشرات الجمعيات والروابط والاتحادات والمنظمات والمؤسسات بمستوى جامعات وأكاديميات معروفة ما يُلزِمها أن تنهض بالمهمة المرتجاة منها في تطمين الحاجات الروحية الثقافية وما يليها من توفير الطمأنينة والعلاقة البناءة بين الجميع.. ولن يكون هنا من خاسر غير الإرهاب وهو الهدف حيث نمنع تأثيرات خطيرة لمثل هذه الآفة الخطيرة آفة التطرف والتشدد وأمراضهما... فيما الرابح كل الأطراف الإنسانية التي تهدف إلى حياة حرة كريمة...
من هنا كان الحديث عن الجالية وحقوقها غير متعارض مع الحديث عن واجبات أفراد تلك الجالية بل أكثر من ذلك الحديث الموحد عن الحقوق والواجبات في وحدة تامة بين تلك الحقوق وهذه الواجبات. والقاسم المسترك بين الحقوق والواجبات يكمن في الحديث عن الاندماج والتفاعل بين الأطراف كافة وبشكل إيجابي فاعل يخدم مصالح الجميع... وهكذا سيوفر هذا التوجه المشترك خط دفاع عن الحريات وعن الحقوق وعن الاستقرار وضد الجريمة ودوافعها بخاصة جرائم التشدد والتطرف....
وسينتصر في النهاية صوت العقل والحكمة والرشاد صوت السداد والموضوعية وسينهزم صوت الهمجية الدموية وعدوانية وحشية التطرف.. فهل سنركز جهود الميديا ووسائل الإعلام في الطريق الصائب الصحيح؟ هذا هو المؤمل من جميع الأصوات الوعية المتفتحة من جميع التوجهات والأطراف كافة.....