ويستدل هؤلاء كما أولئك، على ذلك بما وقع خلال الانتفاضات الشعبية التي انفجرت بتونس ثم بمصر ثم باليمن ثم بالمغرب والأردن وبما سواها. ويدفعون بأنه لولا هذه المواقع التواصلية والشبكات التفاعلية، لما كان لهذه الجماهير أن تتحدى النظم القائمة، وتنجح في تجنيد الآلاف من المواطنين للنزول إلى الميادين، للمطالبة برحيل "أولياء الأمر" من بين ظهرانيهم، بعد طول ظلم وفساد.
هو تشخيص صائب وفي العديد من جوانبه، إذ ارتبطت انتفاضات "الربيع العربي"، في ذهن العديدين، بالفورة الكبرى التي عرفتها شبكات التواصل الاجتماعي، لا بل واعتبر البعض أن هذه المواقع والشبكات قد أسهمت حقا في تأثيث "فضاء عام جديد"، افتراضي، لامادي، مرن وغير خاضع لرقابة الأجهزة والبنى التقليدية.
إلا أن قولا من هذا القبيل يبدو لنا انطباعيا، انبهاريا بالتكنولوجيا الجديدة وغير مبني على مؤشرات واقع الحال:
+ فالشبكة (شبكة الإنترنت في هذه الحالة)، وإن كانت حقا أداة اتصال وتواصل بين المنتمين لها (المرتبطين بها أقصد)، فهي تبقى نخبوية الطابع والطبيعة في كثير من مظاهرها ولا تطال الجماهير، التي قد لا تكون لها فكرة عما هي التكنولوجيا عموما، فما بالك عما هي شبكة الإنترنيت بالبداية وبالمحصلة النهائية. صحيح أن تكنولوجيا الإنترنيت والشبكات المتفرعة عنها، قد بدأت تعرف مدا جماهيريا لا بأس به في العالم العربي، لكنها تبقى مع ذلك، حصرا على من لديهم القدرة المادية والمعرفية لولوجها وتوظيف تطبيقاتها.
+ والشبكة، شبكة الإنترنت، هي وسيلة اتصال وتواصل، ومن ثم هي أداة لتبادل المعلومات وتنسيق في المواقف عن بعد. أما ما يستتبع ذلك، فيجب أن يتم بأدوات أخرى، لعل أقواها تمظهرا على الإطلاق النزول للشارع والاعتصام من بين ظهرانيه. بالتالي، فالشبكة لا تستنبت أصول النضال، بقدر ما تساهم في الترتيب له، والتنسيق فيما بين من هم ثاوون خلفه، تصورا أو ترتيبا أو إعدادا لترجمته بأرض الواقع. إنها كانت (ولا تزال دون شك) وسيلة لتبادل المعلومات وتنسيق "التحركات"، لكنها لا تستطيع (ولا هو من وظيفتها) أن تعوض الوجود بالساحات، أو تنوب عن رفع الشعارات.
+ والشبكة قد تتوسط، بالصوت والصورة والكلمة، لتجاوز هذا المسؤول أو ذاك، كما بحال اليوتوب مثلا، لكنها لا تستطيع أن تقتص منه "افتراضيا" إذا لم يتحرك لبلوغ ذلك مستويات التقاضي التي تتكفل بها المحاكم والقوانين المادية. القانون المادي هنا هو المحتكم إليه، في حين لا قدرة لمن يتهم هذا أو ذاك، أن ينال منه بمجرد الإتيان على ممارساته أو سلوكه من خلال مواقع الشبكات، صوتا أو صورة أو كلمة.
وعلى هذا الأساس، فإننا نعتقد بأن النضال على أرض الواقع هو الأصل، في حين أن ما يسمى "النضال الافتراضي" هو عنصر مكمل، أو قل هو عكس لما يجري بأرض الواقع على الشبكة، مواقعا ومدونات وشبكات تواصل وما سواها. وبقدر جزمنا بذلك، فإننا لا نستطيع أن نجزم بالآن ذاته، بأن المجال العام "الافتراضي" قد نجح في تعويض المجال العام "المادي". على العكس من ذلك، إذ الأول إنما هو جزء من الثاني، إنه وسيلة من وسائله وأداة من أدواته ليس إلا. إنه يفسح له في سبل السعة، ولا يطمح إلى تعويضه أو خلق مسلك مواز لمسلكه.
إننا نعتقد من هنا بأن المستويين متكاملان، حتى بكون الأول (المجال المادي) هو الأصل والثاني هو الفرع (المجال الافتراضي). ثم إن هذا التكامل هو تكامل وظيفي إلى حد بعيد، والشاهد على ذلك أن شبكة الفايسبوك مثلا، إنما كانت في خدمة ترتيب مواعيد المظاهرات في أثناء الانتفاضة في مصر وتونس والمغرب، ولم تنف بتاتا ضرورة وجود الجماهير بالميادين والشوارع. الشبكة هنا ليست هي مجال النضال الذي يتمظهر بأرض الواقع، بل هي الأداة التي تضبط له المواعيد، تنسق له الشعارات وتحدد له التوقيت في المكان والزمان. وهذه مسألة جديدة قياسا إلى أدوات الإعلام والاتصال التقليدية، التي لم تكن متوفرة أو متاحة، أو التي لم تكن تماشي منطق السرعة والآنية والتفاعلية الذي تستوجبه أحداث من هذا القبيل.
مرة أخرى نقول، إن العلاقة بين النضال على الشبكة والنضال على الأرض إنما هما شكلان في النضال متكاملان في الوظيفة، متقاطعان في الدور. إنهما بصيغة أخرى، نمط في النضال قديم، لكن بأسلحة إضافية، متنوعة وجديدة.