يصاب المتتبع لتقهقر المنظومة التعليمية بالمغرب بالذهول عندما يستحضر إلى ذهنه طريقة تعامل كل الأحزاب السياسية التي أدارت هذه المنظومة منذ الإستقلال مع واقع التعليم. فقد كان التعليم أكثر الميادين التي يلمس فيها المرء النزاعات الطائفية بين الأحزاب، بروح من عدم المسؤولية وبمنطق: "ليحل الطوفان من بعدي". حاول كل حزب فرض تصوره لإصلاح التعليم، راميا في سلة المهملات ما ورثه عن حزب سابق له، بل معتبرا إياه غير ناجع وغير صالح على الإطلاق. والنتيجة الموضوعية لهذا السلوك السياسي إلى حدود نهاية الثمانينيات من القرض الماضي هو "تخريب" منهجي للتعليم، اتضحت معالمه بدقة على أكثر من مستوى وقاد بالتأكيد إلى "إفلاس" المنظومة بأكملها. وأهم تجل لهذا الإفلاس هو كثرة المدارس الخصوصية بالمغرب، بل حتى تفضيل المواطن الميسور الحال أو المنتمي إلى الطبقة الوسطى للمدارس الخصوصية الأجنبية، إيمانا منه بأنها الأحسن لتعليم أبنائه. فالمدرسة العمومية، التي تعتبر نظريا على الأقل معقل "تساوي الفرص"، كمبدأ أساسي لسياسة تعليم ديمقراطية وذات منحنى إنساني، أصبحت في العمق مركز صناعة الفوارق الإجتماعية بكل أشكالها وبكل النتائج التي قد تؤدي لها.
تتجلى قلة الأذب في هذا المجال في فتح الأحزاب السياسية لأبواقها مرتفعة، وبالخصوص تلك التي "تربعت" من قبل على كرسي التعليم لعشرات السنوات، في نقدها الهدام لحال التعليم ولما وصل إليه من تدهور. والواقع أن مثل هذه الأحزاب لا تتوفر على أي وعي تاريخي، بل تعتقد أن التاريخ نسى ما اقترفته في حق التعليم ورجاله. وفي العمق، وبطريقة لاواعية تماما، لا تقوم إلا بنقد الطريقة التي سيرت بها هذا الميدان واعترافها الضمنى أو العلني بالكارثة التي سببتها لأهم قطاع في البلد بعد الدفاع. إنه اعتراف واضح إذن بفشلها في تقديم الأجود لبناء متماسك ومستقبلي للتعليم وإرساء قواعد مدرسة عصرية تضمن لكل مغربي ومغربية حدا أدنى من التعليم والتكوين لمواجهة ضروريات الحياة وتحديات العصر. من "الرذالة" بكثير تركيز النقد على آخر حكومة أنيط لها هذا الميدان، وليس في هذا أي تحيز لهذه الحكومة ولا أية محاولة لإعفائها من مسؤولياتها في هذا الإطار، فمن السهل كسر الزجاج ورميه في طريق الآخر ومحاولة الضغط عليه للمشي عليه حافي القدمين. فالتاريخ لا يرحم من يحاول التنصل له أو طمسه أو حتى تحريفه، وذاكرته قوية لا تنسى ما اقترفته الأحزاب من ظلم وتعسف في حقه. فلحزب الإستقلال مثلا باع طويل في كتابة تاريخ التعليم في المغرب، نظرا لأنه تحمل مسؤوليته لسنوات طوال في وقت كان ممكن فيه تحسين الأمور نحو الأحسن. بل إن سياسية هذا الحزب في "إقبار" نمو التعليم وتقدمه لمسايرة عصره واضحة المعالم وغير قابلة للنقاش. وقد كانت أقوى وأعنف اللطمات التي تلقاها التعليم على يد هذا الحزب هي إقحامه في سياسة تعريب دون أي تصور واضح ومتين لنتائج هذه السياسية، بل بهدف استراتيجي بعيد المدى نحصد نتائجه الوخيمة على كل المستويات حاليا. فكل التلاميذ الذين اختاروا ويختارون وسوف يختارون الشعب العلمية هم الضحية الأولى لسياسة الإستقلاليين، لأن دراستهم الجامعية متعثرة، على اعتبار أن مواد التخصصات العلمية تدرس في الثانوي بالعربية وفي التعليم العالي بالفرنسية. إنها قسمة ظهر الحصان بالساطور وإحداث شلل عام في جسده، فلا هو يستطيع التحرك ولا هو يحسن الجلوس. وفي صدمة تعقد الأمور في الميدان لم يقم الحزب الإشتراكي إلا بترقيعات من هنا وهناك، لم تنفذ إلى عمق المشاكل الحقيقية للتعليم، بقدر ما عمقت هوة الإختلاف بين العاملين في الميدان والساسة. نتفرج جماعات وفرادى على حال التعليم ولا نتأسف حتى على كونه أصبح معملا لإنتاج الأميين الوظيفيين، المحبطين، فاقدي أي توجيه وتوجه، المترجمين لغضبهم في سلوكات منحرفة في غالبها كالعنف والإلتجاء للمخدرات وما شابهها.
النتيجة المنطقية لكل هذا هو أنه ليس من المعقول التعويل على كفاءة أي حزب سياسي كان في الوقت الحاضر لإعادة الإعتبار للمنظومة التعليمية بالمغرب والرقي بها إلى المستوى المطلوب لبناء إنسان مغربي قادر على تحمل مسؤوليته المستقبلية، لأن رحى التطاحن بين الأحزاب تجد التعبير الصادق عنها في ميدان التعليم، ولأن السياسة الوحيدة التي تتقنها هذه الأحزاب في هذا الميدان هي محاولة إفساد المناخ العام في حقل التدريس وتحميل أي حزب تحمل مسؤوليته كل عواقب إخفاقاته التاريخية. والحال أن المغرب والمغاربة يستحقون أسمى وأحسن نظام للتعليم، ولن ينجح المرء في تقديم نموذج تعليمي يعول عليه إلا إذا حرر التعليم من مخالب الأحزاب واهتدى إلى وضع هذا الميدان في أيدي جهات محايدة سياسيا بالمرة، كما هو أمر المنظومة الأمنية، في جناحيها الداخلي والخارجي، أو العدل و إلى حد ما ميدان "الشؤون الدينية". وأعجل ما يجب على المغرب تحقيقه هو فتح الباب للأحزاب السياسية لكي تتفق على تصور مشترك للتعليم بعيد المدى والتزامها مجتمعة بهذا التصور وإشراك الفاعلين الحقيقيين في التعليم في هذا الأمر، ولا نقصد هنا بتاتا النقابات –لأنها ممثلة سياسية-، بل رجال التعليم الممارسين في الميدان. بعد هذا تناط زمام الأمور لجهة محايدة سياسيا، يكون دورها الأساسي هو السهر على تنفيذ مضامين هذا التصور العام. لم يعد من حقنا التفرج السلبي على كيفية تفكيك وهدم التعليم في المغرب، بل نساهم بهذا التفرج في حفر قبر التعليم عندنا. كيف يعقل والحالة هذه الإستمرار في إرسال فلذات أكبادنا للتعلم في مدارس أجنبية نشيطة في المغرب أو الزج بهم في الشوارع ليؤمنوا تكوينهم كصعاليك وخارجين عن القانون، فوضويين وممارسين للعنف والعنف المضاد. إن أهم هدف يجب الوصول إليه هو تأهيل المدرسة العمومية المغربية للمساهمة في بناء الإنسان المغربي، ففي هذا التأهيل تكمن نواة المصالحة الداخلية بيننا وإعادة الثقة في قدرتنا على رفع التحديات، كيفما كان نوعها.