فحتى وإن ارتبط العيد بالأكل والشرب والتزين ولبس أفضل ما عند الإنسان واستقبال الضيوف وزيارة الأحباب والأقارب، فإن عمق دلالته الفينومينولوجية يتجاوز بكثير تمظهراته الإحتفالية البسيطة. فالعيد، يعني "المُعايدة"، أي تكرار الحدوث، باستقلال عن الفضاء المكاني، في دورة أبدية تتعالى على الفهم البشري للزمان. إنه "الكينونة" ذاتها. لا يعني فيه التكرار حلقة زمانية مغلقة على نفسها، بل تحرك حلزوني أفقي في دوائر وجودية مفتوحة على نفسها، حيث يسمو الإنسان بنفسه وعقله إلى ما وراء الزمان البشري، ليعانق الزمان الرباني، الذي ليس له لابداية ولا نهاية. ويعني انفتاح الدوائر الزمانية للعيد التطور النفسي والعقلي والروحي للإنسان، ليمر من تجربة الصوم الأصغر، من مرحلة "تطويع" الجسد إلى مرحلة تأمل الذات وفهم مغزى الصوم والعيد الذي يتبعه. فعيد الفطر بهذا المعنى، يحيل إلى إعادة اكتساب الفِطرة الأصلية للإنسان، ككائن لا يفصله عن المقدس إلا تمثله له، بالمرور من تمثل موضوع المقدس (الله) من تمثل أنثروبومورفيك إلى تمثل كينوني وجودي ، لا يكون في متناول إلا أولائك الذين يفهمون بأن عيد الفطر هو ليس معايدة الإنغماس في السلوك الحضيضي في الوجود بشهواته، بل بداية صوم أكبر، على اعتبار أن صوم رمضان هو تدريب وتهييئ لولوج عتبة باب هذا الصوم الأكبر. العيد إذن بهذا الفهم، هو أداة بداية تكوين شخصية الإنسان على كل مستوياتها، وهو فتح باب الإشتغال على هذه الشخصية لتسمو بنفسها إلى مستوى أرفع. وليس في هذا أي بصيص أخلاقي أو لاهوتي، بل كل البناء يتم على أساس قدرات وكفاءات الإنسان، المخزونة في ذاته. إذا لم يُتَمَّم الصوم الأصغر بالصوم الأكبر، فلن يفهم الإنسان المقصود من صوم رمضان. فإذا كان الصوم الأصغر هو جهاد ضد شهوات النفس ومحاولة تطويعها، فمن اللازم أن يُتبع بالصوم الأكبر كعيد دائم، لأن مصطلح العيد يضمر معنى الفرحة كذلك. ولا تتأتى هذه الفرحة في الصوم الأكبر إلا إذا استطاع الإنسان تجاوز أنانيته في الصوم الأصغر وفهم القصد من خلقه من حيث لا يدري ونهايته إلى حيث لا يدري. الصوم الأكبر هو الإنفتاح اللامشروط على الله في خليقته، سواء أكانت طبيعة أو حيوان أو نبات أو بشر، دون أن يكون هذا مبدء حلوليا معينا، بقدر ما يكون اختيار قصدي لاقتفاء خطوات الإلهي على الأرض وليس انتظار لقائه في زمان ومكان آخرين. فالحياة مُنحت لتُحيى، لتُحَب، لأن الله حياة ويحب الحياة. لم نُخلق عبثا، ولا تُختزل حياتنا الدنيوية في قاعة انتظار كبيرة، لأخذ قطار، ولربما طائرة الآخرة.
طبقا لهيدجر فإن "الوجود هنا Dasein" هو ذاك التمثل الذي يتجلى للبشر من خلال وجودهم كمقذوف بهم "هنا". إن تمثل الإنسان لذاته كَمُرْمَى به في الحياة عرضا، ودون سابق إنذار، ووعيه الزمكاني هو الذي يقلقه ويخيفه في هذا الوجود، لأنه في قرارة نفسه يعلم بأنه "مقيم مؤقت" في هذا الوجود، وبأن "موطنه الأصلي" هو الموت. وسبب "صدمة الكينونة عند الإنسان" هو هذا القلق والخوف من معايدة هذه التجربة الوجودية لـ "الوجود هنا"، والقذف بالإنسان في وجود آخر، لا يعلم عنه شيئا. الفرق بين "القدفتين" هو أن الإنسان استطاع وعي تمثل ذاته زمكانيا في "الوجود هنا"، والقلق الذي يعتريه هو ما إذا كان بإمكانه الوصول إلى نفس الوعي في "الوجود هنالك". الصوم الأكبر هو مفتاح قبول الحياة كما هي، واستقبال الآخرة كما ستكون، دون التضحية بواحدة على حساب الآخر.