أعاد المشروع، الذي سيرتبط باسم وزير العدل، مصطفى الرميد، الاصطفاف من جديد إلى الشارع بين الإسلاميين والمحافظين من جهة، والعلمانيين والحداثيين من جهة أخرى، بسبب مواد كثيرة مثيرة للجدل، خصوصاً التي تتعلق بالأخلاق العامة، وتجرم سلوكيات تندرج في إطار الحياة الخاصة أو الحريات الفردية. ويرى مؤيدو المشروع الجديد فيه انسجاماً مع مرجعية الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة، فيما يعتبر معارضوه أنه يكشف عن الوجه الآخر، أو الوجه الحقيقي للحزب الإسلامي الذي كان يقدم نفسه للرأي العام المغربي على أنه أكثر مرونة واعتدالاً في التعاطي مع متغيرات العصر.
أكثر بنود هذا المشروع إثارة للجدل هي المتعلقة بأحكام وجرائم وعقوبات، تمتح مرجعيتها من الفقه والشريعة الإسلامية. لكن منتقديه يرون فيه نوعا من الانتقائية التي تفضح ازدواجية المعايير لدى الحزب الإسلامي، الذي يقود الحكومة، فالمشروع الجديد يقر عقوبة الإعدام، على اعتبار أنها من جرائم القصاص المنصوص عليها في الكتاب والسنّة، لكن مناهضي هذه العقوبة يردون على المدافعين عن بقائها بأن الكتاب والسنة يتضمنان، أيضاً، عقوبات أخرى تندرج ضمن جرائم القصاص والحدود، مثل قطع يد السارقة والسارق، ورجم الزانية والزاني، لكن مشروع القانون الجديد لا يتضمنها. كما يتضمن المشروع عقوبات بالسجن النافذ لمن يُجهر بإفطار رمضان، مما يثير الكثير من الانتقاد والنقاش، خصوصاً وأن العقوبة المترتبة عن مثل هذا الفعل غير منصوص عليها، لا في الكتاب ولا في السنة، ويرى جمهور علماء المسلمين أن على المُفطر المُتَعمِّد القضاء والكفارة والتوبة. والمطالبون بإلغاء هذه العقوبة يردون على من يعتبرون أنها جاءت لتحافظ على ثقافة ومرجعية المجتمع الدينية، بالتساؤل لماذا لا ينص المشروع نفسه كذلك على تجريم تارك الصلاة وتجريم من لا يدفع الزكاة ومن لا يحج من أصحاب الاستطاعة،
فهذه كلها من أركان الإسلام الرئيسية؟ جانب آخر من الجرائم التي يتضمنها مشروع القانون تخص ما يسميه محرروه بـ "النظام العام الأخلاقي" مثل التحرش الجنسي والعلاقات الجنسية غير الشرعية والإجهاض. لكن تكييف هذه الأفعال كجرائم، انطلاقا من مرجعية فقهية شرعية، يرى معارضوها أنها تتعارض مع المرجعيات الكونية والإنسانية التي يقر بها الدستور المغربي نفسه. وفي هذا السياق، يرد منتقدو المشروع على مناصريه بالتساؤل لماذا لا يتم، إذن، الاحتكام إلى المرجعية الفقهية الشرعية نفسها لاعتماد قوانين تخص رِبَا معاملات البنوك وضرائب إنتاج وبيع الخمور ولعب القمار، التي تذهب إلى الخزينة العامة للدولة، وكلها أفعال العمل بها سار في المغرب، ولا يجرمها القانون؟
وكان وزير العدل، صاحب هذا المشروع، واضحا في دفاعه عن مسودة قانونه، عندما قال إنه لن يقبل أي اعتراض "يمس عمق النظام العام الأخلاقي"، ولن يقبل أية اقتراحات "تمس في الصميم ضمير المجتمع، وتمثل ضرباً لإسلامية الدولة التي يعتلي عرشها أمير المؤمنين"، وهو ما جعله يرفع التحدي في مواجهة خصومه إلى القول: "بيننا وبينكم الشارع".
هذا الوضوح في الكشف عن المرجعية الإسلامية لمشروع القانون هي التي جعلت منتقديه يصفون إسلاميي الحكومة بأنهم يكشفون عن وجههم الحقيقي، الذي طالما حاولوا إخفاءه وراء مظاهر الاعتدال ومرونة الخطاب والبراغماتية السياسية، التي أبانوا عنها. ومن يتابع ردود فعل إسلاميي الحكومة في الدفاع عن هذا المشروع، قد يتساءل إلى أي حد يدركون أبعاد موقفهم هذا، ومدى انعكاسه على صورتهم لدى شرائح واسعة داخل المجتمع، محافظة وتقليدية، لكنها ليست بالضرورة متشبعة بالمرجعية الفقهية الشرعية، التي يستند إليها معدو هذا المشروع. كما قد يتساءل آخرون عما إذا كان الهدف من موقف كهذا هو استمالة أنصار التيار السلفي المتنامي في المغرب، والذي دعم أتباع الحزب الإسلامي الذي يترأس الحكومة في انتخابات عام 2011.
تابعنا كيف ظل سلفيو مصر يزايدون على الإخوان المسلمين في مجال تطبيق الشريعة، ودفعوهم إلى مخاصمة العلمانيين واليساريين والليبراليين وتبني دستور يمتح مرجعيته من الفقه والشريعة، ورأينا كيف انقلبوا عليهم، وذهبوا إلى تأييد الانقلاب، الذي حارب الإخوان ولن يثق قط في السلفيين. ويرتكب إسلاميو حكومة المغرب، اليوم، الخطأ نفسه، يلهثون وراء إرضاء أصوات السلفيين، ويراهنون على محافظة المجتمع وتقليديّته، لكنهم، في الوقت نفسه، يكشفون عن وجههم الحقيقي الذي سيؤلب ضدهم الديمقراطيين والحداثيين والعلمانيين، ويشوه صورتهم في الخارج لدى الغرب، ويمنحون الفرصة والتبرير للدولة العميقة للتدخل لكبح جماحهم والحد من غُلُوِّهم. وفي النهاية، سيكون المستفيد الأخير والوحيد من كل هذا الجدل المتفاعل بين الإسلاميين والعلمانيين، اليوم، هو الدولة العميقة، ممثلة في "المخزن" الذي يرمز إليه القصر في المغرب، عندما يتدخل الملك حكماً للفصل بين الخصمين. عندها، لا أحد يتصور أن إسلاميي الحكومة سيظلون متشبثين بمواقفهم المتشددة. ألم يُصرّح رئيسهم ورئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، أنه مستعد أن يعمل "برأي الملك، محمد السادس، حتى وإن كان أحياناً يختلف مع مرجعيتي الدينية".