ما الذي يجعل حِرفيا مغربيا أو سجينا سلفيا سابقا أو طالبا جامعيا أو ناشطا سابقا في حركة 20 فبراير، يترك أسرته الصغيرة وعالمه الخاص ويرحل نحو سوريا للالتحاق بتنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» أو ما يصطلح عليه بـ»داعش»؟ ما هي العوامل النفسية أو الاجتماعية التي تدفع بشاب مغربي لترك كل حياته السابقة ليتحول إلى مقاتل في تنظيم دموي يقاتل في حرب أهلية طاحــنة لا يُرى لها أي نهاية قريبة؟
ظاهرة الجهاديين المغاربة العابرين للقارات ليست ظاهرة حديثة، أو وليدة الأزمة السورية، بل ترجع إلى ثمانينات القرن الماضي، مع ما عُرف بالأفغان العرب، حين شد الرحال نحو بلاد الأفغان ما يقدر بـ25000 مقاتل من العديد من البلدان العربية، تفرغ ما يقارب 1000 فقط للقتال المباشر في الميادين، بينما الباقون تفرقوا في مهام الخدمات الإنسانية والطبية والدعم المالي واللوجستي. استمر الجهاد الأفغاني منذ الاجتياح السوفييتي لأفغانستان مطلع الثمانينات لينتهي مطلع التسعينات بحرب أهلية بين المجاهدين الأفغان أنفسهم، بعدما اتحدوا في ساحات الجهاد واختلفوا على من يحكم، استغلت الولايات المتحدة الأمريكية الأفغان العرب لكي تحقق طموحاتها في استنزاف عدوها الأول في الحرب الباردة، الاتحاد السوفييتي، بتحويل أفغانستان إلى مستنقع موت وهزيمة، فبدأت بدعم وتسهيل وصول العرب إلى أفغانستان وتجييش الدعاية الدينية وتوجيه الشيوخ ورجال الدين، خاصة الخليجيين لتعبئة الشباب العربي والمسلم للذهاب والقتال ضد الشيوعيين «الكفرة». كباقي العرب وصلت الدعاية الأمريكية الخليجية لشباب المغرب، فسافر إلى أفغانستان لقتال السوفييت وحلفائهم بضع عشرات وكان الطابع الغالب في شخصياتهم هو الانفعال النفسي والتأثر بالدعاية، مع الكثير من البساطة وحتى السذاجة وقلة المعرفة وتدني المستوى العلمي والمعرفة الدينية.
بعد نهاية الجهاد الأفغاني بحرب أهلية مطلع التسعينات، وجد المجاهدون العرب أنفسهم في بطالة جهادية، فقد انتهى دورهم في الحرب بالوكالة بين القوى العظمى وبين الأنظمة العربية التي استغلتهم في تصدير أزماتها و»النفي الجهادي» لبعض الشخصيات الاسلامية التي كانت تشكل لها إزعاجا وقلقا على أراضيها. وبعد مرحلة التسعينات توجه بقية المغاربة الأفغان، أو الجهاديين المغاربة، إما إلى ساحات معارك متفرقة، مرة في الصومال ضد التدخل الأمريكي حليف الأمس، أو في الشيشان ضد الوجود الروسي، أو في ألبانيا ضد الجيش الصربي، لكن أغلبهم عاد إلى المغرب ليجد نفسه عاجزا عن إحداث أي تغيير أو إصلاح إسلامي وليكتشف أن رصيده الجهادي لا يجد من يكترث له أو يقدره.
بعد أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من أحداث، كالغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، سيعود للمشروع الجهادي العالمي بعض البريق، وسيتوافد عدد أكبر من المغاربة للقتال مع الفصائل الجهادية السنية، لتَتَكرر الصيرورة نفسها، عودة الكثير منهم وهلاك عدد أكبر بعد تحول الجهاد العراقي إلى حرب أهلية بين الطوائف العراقية: السنة ضد الشيعة تارة وضد الأكراد القوميين تارة أخرى، وبين العشائر السنية (الصحوات) والفصائل الجهادية، أو بين الفصائل الجهادية بعضها مع بعض. مرة أخرى سيجد المشروع الجهادي العالمي فرصة أخرى للانتعاش وإعادة الاستقطاب ورص الصفوف، بعد تحول الثورة السورية السلمية إلى ثورة مسلحة، ثم حرب أهلية مسلحة بين الطائفة السنية السورية والطائفة العلوية الشيعية المدعومة من إيران وحزب الله اللبناني، هذا الوضع السياسي والطائفي المتوتر ستستغله كل القوى الإقليمية لتمرير مخططاتها ومصالحها الشخصية، تركيا ستستغل الحرب لإشعال مناطق أعدائها الأكراد، إسرائيل وأمريكا ستستغل الفرصة لتخريب سوريا وتشريد فلسطينييها وتحقيق أمنها بتدمير دولة مجاورة، الولايات المتحدة لن تفوت الفرصة في إشعال المنطقة مع حلفائها من دول الخليج لكي يقدموا عدوا بديلا لإسرائيل، وهو إيران التي على العرب والمسلمين مقاتلتها، وتحويل الصراع العربي الإسلامي/الإسرائيلي إلى صراع سني/شيعي، سيُجيَش خلاله الكثير من الخطباء والعلماء المحسوبين على التيار السلفي الوهابي في كافة وسائل الاعلام والمؤسسات الدينية وفي كل الدول العربية للتضخيم من خطر الشيعة والتشيع، ولفت الانتباه للجرائم والمجازر المُقترفة ضد الطائفة السنية في كل من العراق وسوريا. فمن هو المقاتل المغربي في سوريا؟ وما هي أسباب ودوافع تحوله ورحيله عن وطنه للقتال في سوريا؟
حسب الكثير من التقارير المعتمدة يصل عدد المغاربة المقاتلين في سوريا إلى 1500 مقاتل، وهذا رقم ضخم مقارنة مع الكثير من الدول العربية، التي تفوق المغرب عددا مثل مصر، أو إسلامية مثل اندونيسيا وتركيا التي تعتبر أكبر الدول من حيث تعداد المسلمين، والتي لم تصدر مجتمعة سوى 2000 مقاتل أغلبهم مصريون اتجهوا للقتال فقط بعد الانقلاب العسكري على حكم الرئيس المعزول محمد مرسي. كباقي الظواهر الانسانية الاجتماعية فإن ظاهرة الداعشي المغربي في تكوينها ظاهرة مركبة الأسباب ومعقدة التكوين، لا يمكن فهمها اختزالا في سبب واحد، بل بتوليف كل الأسباب بنسب مختلفة، وحسب كل حالة على حدة.
أغلب الدواعش المغاربة هم من أتباع التيار السلفي بشقيه الوهابي التقليدي أو من أتباع التيار السلفي الجهادي المتورط بشكل من الأشكال في الأحداث الإرهابية في المغرب، التي عُرفت بأحداث 16 مايو وما تلاها، حيث تكاثر هذا الفكر في السجون المغربية وبين المعتقلين السلفية الجهادية في ضعف أو غياب أي مقاربة فكرية أو فقهية لمحاورة أو محاولة تغيير، وتقديم مراجعات أفكار هؤلاء المعتقلين الذين سرعان ما يتجهون إلى ساحات القتال فور انتهاء مدة محكوميتهم.
النوع الثاني من مغاربة «داعش» هم أشخاص عاديون ذوو مستوى تعليمي بسيط أو متدن، تم استقطابهم واقناعهم بضرورة الذهاب والقتال في سوريا للدفاع عن الاسلام والمسلمين السنة، ويشكل الدافع المادي إلى جانب غياب أي مشروع سني يحفظ الهوية ويدافع عن المسلمين السنة المضطهدين في العالم، عكس المشروع الشيعي الذي ترعاه إيران.
النوع الثالث من مغاربة «داعش» وهو الأقل عددا لكن الأكثر لفتا للانتباه، الذي قد يكون الداعشي المقاتل هو مناضل سابق في حركة 20 فبراير أصابه الإحباط الناتج عن فشل «الربيع العربي» في نسخته المغربية أوصُدم لفشل النُخب السياسية والاسلامية المغربية في إيجاد حلول ناجعة للمشاكل ومعضلات الوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المغربية، في حين تُروِّج «الدولة الاسلامية» إلى خلافة إسلامية على منهاج النبوة تُحقق العدل والرفاه لكل المسلمين وقادرة على حل كل المشــاكل السياسية والاقتصادية للفرد والأمة.
تبقى حالات أقل لشباب مغاربة وُلدوا في دول أوروبا وتوجهوا للقتال في سوريا، هؤلاء لم يُعانوا من صعوبات اقتصادية في بلدانهم، لكنهم كانوا عُرضة للتمييز العنصري أو التهميش الاجتماعي، وحالات أخرى لشباب يافعين منحدرين من أسر ميسورة وليست لهم أي ميول جهادية دينية، أو اهتمامات سياسية، لكن ما دفعهم للرحيل والانضمام لـ»داعش» هو طيش الشباب والرغبة الجامحة في عيش حياة الحرب والاثارة العسكرية! كما رأوها في الأفلام عالية الجودة الاخراجية التي أصدرها التنظيم، وهذه حالات نادرة لكنها متكررة في أكثر من بلد عربي وأوروبي.
على قلة الدراسات والجهات التي اهتمت بدراسة نفسية وشخصية المقاتل الجهادي المغربي العابر للحدود في أسباب ودوافع تحوله واستقطابه، ثم استغلاله في حروب لا علاقة له بها، كمواطن مغربي له مؤسساته وأجهزة دولته المسؤولة عن معالجة الاحداث السياسية خارج وطنه، وليس ذلك المواطن البسيط، فإن خطر الفكر السلفي التكفيري الجهادي مازال فـــي تزايد ونمو داخل الأراضي المغربية وخارجها، وهؤلاء الداعشيون المغـــاربة، سواء في السجون أو في ساحات القتال، أو تحت الاستقطاب والإعداد، سيشكلون خطرا متزايدا على باقي المواطنين والمصالح الوطنية، في غياب وضعف مشاريع فكرية اسلامية بديلة، تدافع بشكل حضاري وشرعي عن الهوية الاسلامية المغربية، التي تمت تنحيتها أو حصارها حتى اختفت، أو كُتم صوتها، مثل السلفية الوطنية التي ساهمت في استقلال المغرب، والاسلام الصوفي السني الأصيل الذي ضمن الأمن الروحي والاستقرار النفسي للشخصية الدينية للإنسان المغربي على الاسلام الوسطي الحنيف.